رفع قيمة اليوان: الأمر يشمل جهات أخرى غير الصين

بدأنا نسمع قرع الطبول خلال الفترة الأخيرة، حيث إن من المحتمل أن يكون الأمر جاداً في هذه المرة. ويبدو أن الولايات المتحدة ماضية في عرض عضلاتها فيما يتعلق بقضية رفع قيمة اليوان الصيني، على الرغم من محاولات الصين من أجل التهدئة.
غير أن السؤال الذي يظل قائماً هو: ما مدى فائدة ذلك للاقتصاد الأمريكي؟ إذا أردنا أن نستفيد من الخبرات القائمة، فإن الإجابة هي أنه لن يكون ذا فائدة كبيرة بهذا الخصوص. وتم إرغام اليابان في عام 1985 على رفع قيمة الين (حسب اتفاقية بلازا) دون تأثير يذكر على ميزان التجارة الثنائية بين البلدين. وزاد العجز التجاري الأمريكي مع اليابان الذي كان 46 مليار دولار في عام 1985، ليصل إلى 50 مليار دولار في كل من عام 1988، و1989، وليتراجع بصورة بسيطة بعد ذلك.
لم تكن اتفاقية بلازا ممارسة أمريكية – يابانية، كما أنها لم تكن محددة بعملات معينة، بل إنها كانت اتفاقية واسعة النطاق استهدف إعادة تعديل السياسات الاقتصادية للقوى الكبرى. وإلى جانب تغيير معدلات تبادل العملة، فقد وعدت الولايات المتحدة بتقليص عجز ميزانيتها الذي بلغ 212 مليار دولار في عام 1985، كما وعدت اليابان بالحفاظ على سياسة نقدية متساهلة. ووعدت ألمانيا بتنفيذ تخفيضات ضريبية. وتعهدت بريطانيا، وفرنسا، كذلك بإدخال تعديلات على سياستيهما الاقتصاديتين.
وعلى الرغم من أن وقائع الأمور أثبتت أن هذه التعهدات لم تعمل كما كان القصد منها، فإنها تكشف الحاجة إلى جهد متناسق بين القوى الاقتصادية الرئيسة بما يتجاوز معدل تبادل العملات. وهنالك بالفعل حاجة ماسة إلى ممارسة هذا النهج في الظروف الحالية، كما أنه يبدو لغاية الآن أن الموضوع غائب عن أجندات عمل صانعي السياسات في القوى الكبرى. ويدل ارتفاع قيمة اليوان بنسبة 21 في المائة في الفترة من 2005 إلى 2008 على أن من ضروب الخيال والوهم الركون فقط إلى تغيير أسعار تبادل العملات.
إن الحجة المقابلة الرئيسة هي أن القضية ليست لها سوى علاقة بسيطة بالتنافسية الصينية أو الأمريكية، بل إن الأمر متجذر في ضعف الاتجاه نحو الادخار في الاقتصاد الأمريكي، ذلك الاتجاه الذي هيمن على الوضع منذ أكثر من عقد من الزمن.
إن محاولة إحداث توازن بين الاستهلاك والإنتاج هي الأمر الأكثر أهمية في هذه المعادلة، وهو ما يجعل مسألة سعر اليوان الصيني أمراً ليس ذا علاقة. وإذا تم رفع قيمة اليوان الصيني، واستمر الإنفاق المتجاوز في الولايات المتحدة، فإن الواردات من الصين ستتراجع، ولكن العجز سيتحول ليصبح مع دول أخرى مصدرة للولايات المتحدة، وبالذات تلك الدول متدنية التكاليف في القارة الآسيوية، وكذلك هي الحال مع الدول الأمريكية اللاتينية التي تصدر للولايات المتحدة.
لهذه الأسباب ترى الصين أن المسألة تتعلق بمحاولة إيقاف سرعة نموها الاقتصادي، وليس بتنشيط الاقتصاد، وزيادة فرص العمل في الولايات المتحدة. وتسبب رفع قيمة الين الياباني بنسبة وصلت إلى 50 في المائة مقابل الدولار منذ عام 1985 في بذر بذور المشكلات الاقتصادية التي أثرت بصورة سلبية على الاقتصاد الياباني، وأدت إلى شبه الانهيار الذي شهده هذا الاقتصاد بداية من عام 1990.
بغض النظر عمن يساند هذه الحجج، أم لا، فإن الأسئلة الرئيسة تظل قائمة: ما الذي سيعنيه رفع قيمة اليوان لسلسلة الإمدادات في القارة الآسيوية؟ وإذا بدأت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بالتراجع، فما مدى معاناة الدول الآسيوية التي تزود الصين بالمواد اللازمة لذلك التصدير؟ تقول مصادر بنك التنمية الآسيوية إن سلسلة الإمدادات الآسيوية قد تعززت ذاتياً، وبصورة رأسية، حيث تكاملت عناصر الإنتاج بين دول المنطقة للتمكن من إنتاج منتجات نهائية تكون وجهتها نحو جهات خارج القارة الآسيوية.
تظهر الأرقام أن 43 في المائة من صادرات دول آسيا فيما عدا اليابان، تتوجه إلى الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان. ولكن أخذنا في الحسبان سلسلة الإمدادات، فإن هذه النسبة يمكن أن ترتفع إلى 61 في المائة، لأن 70 في المائة من التجارة الآسيوية البينية يتكون من بضائع وسيطة. وليس من قبيل المصادفة أن تكون الصين مركزاً لسلسلة الإمدادات هذه بين الدول الآسيوية، وبالتالي فإن تراجع واردات الولايات المتحدة من الصين، سيؤدي على نحو مؤكد، إلى تراجع استيراد الصين لهذه البضائع الوسيطة التي تمكنها من إنتاج المنتجات النهائية لكي يتم تصديرها في نهاية المطاف إلى السوق الأمريكية. ولا شك بأن هناك علاقة ارتباط وثيق بين صادرات الصين إلى أمريكا، وأوروبا واليابان، وبين مستورداتها على نطاق واسع من عدد كبير الدول الآسيوية فيما يتعلق بالبضائع الوسيطة.
ذكر تقرير بنك التنمية الآسيوية، على سبيل المثال، أن المكائن، ومعدات النقل كانت تشكل 15.5 في المائة من الصادرات الصينية في عام 1992. غير أن هذه النسبة قفزت لكي تصل إلى 46.2 في المائة في عام 2006. وزادت نسبة هذه البضائع في المستوردات الصينية من 39.7 في المائة إلى 48.4 في المائة خلال الفترة ذاتها.
كذلك هي الصورة فيما يتعلق بتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. وتعمل تدفقات هذا الاستثمار في مختلف أنحاء العالم على مساعدة الإنتاج من أجل الأغراض المحلية. وأما في آسيا، على سبيل الخصوص، فيعمل ذلك الاستثمار على دعم سلسلة الإمدادات، وبالتالي التصنيع بهدف التصدير إلى كل من الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان. وإذا تراجعت صادرات الصين، فإن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر سيتأثر بصورة سلبية، ليس في الصين فقط، وإنما على نطاق بقية الدول الآسيوية التي تصدر البضائع الوسيطة للصين. ولوحظ أن معظم الاستثمار الأجنبي الذي تدفق على جمهورية الصين خلال العقد الماضي كان من دول آسيوية، الأمر الذي يعزز النقطة التي ركزنا عليها أعلاها.
يبدو أن الموقف الأمريكي إزاء الصين لم يتمكن بعد من استيعاب أن الصين تعمل كمركز آسيوي رئيس للتجارة البينية، دون أن يكون ذلك في شكل وحدة منعزلة، وإنما هو جزء من شبكة تعامل وعلاقات بالغة التقدم والتعقيد، حيث لا يمكن فصل أي جزء عن الأجزاء الأخرى التي تتكون منها شبكة العلاقات المتطورة هذه.
على الجانب الآسيوي كذلك، نجد أن هناك عدداً من الدروس التي يجب أن يتم تعلمها. ولعل أول وأهم هذه السلسلة من الدروس هو أن هذه الشبكة مترامية الأطراف من الاعتماد المتبادل بين دول القارة الآسيوية، في حاجة ماسة إلى إطار مؤسسي يضمن استمرار ودعم سلسلة الإمدادات هذه، وكذلك تدفق البضائع، والخدمات، والرساميل بصورة حرة. وقد عمل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية على تحقيق ذلك لغاية الآن. غير أنه ليس هناك من ضمانة لاستمرار هذا الأمر، لا سيما إذا أصيب المركز الرئيس لشبكة الاعتماد المتبادل هذه بأضرار ناجمة عن عوامل خارجية متمثلة بإرغام ذلك المركز على رفع قيمة اليوان.
إن لدى جميع أعضاء سلسلة الإمدادات هذه مصالح مشتركة لا تتمثل فقط في الإبقاء على إبعاد تدفق البضائع، والرساميل عن كل القيود الرسمية، ولكن كذلك لحماية هذه السلسلة من آثار التدخلات الخارجية. ويشير ذلك إلى تكامل آسيوي قوي، وأبعد عمقاً، الأمر الذي يؤدي إلى حماية حرية التدفق من القيود، كما يعمل في الوقت ذاته كأداة لتشكيل موقف مشترك لردع الهجمات التجارية من جانب الشركاء الآخرين.
إذا لم يحقق مثل هذا التقدم خطوات إلى الأمام، فإن هناك مخاطر تحرك أطراف التجارة الآسيوية بصورة منفردة، والعمل على إلحاق الضرر بالتكامل الضروري لاستمرار ودعم سلسلة الإمدادات الآسيوية الحيوية. وستراهن الأطراف الأخرى على عدم رغبة الدول الآسيوية في العمل معاً.
وإذا لم يتم تعزيز هذه السلسلة، فإن الاقتصاد الآسيوي يظل هشاً، ومكشوفاً أمام تحركات سياسية على شاكلة محاولة إرغام الصين على رفع قيمة اليوان. كما أن ضعف سلسلة الإمدادات هذه يمكن أن يؤدي إلى عواقب سيئة فيما يتعلق بحدوث مزيد من التقلبات في دورة النشاطات العملية العالمية. ويمكن لضعف التعاون الداخلي أن يفقد القارة الآسيوية ميزتها في أن تصبح مركزاً مهماً ودائماً على نطاق التجارة العالمية. وإن آثار التدخلات الخارجية لن تقتصر على الصين وحدها، ولكنها ستؤثر على آسيا ككل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي