الصناعة ومخرجات التعليم العالي
''الصناعة خيارنا الاستراتيجي لتنويع مصادر الدخل'', تمثل رؤية استراتيجية أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - لتحديد التوجهات المستقبلية لبلدنا الغالي، حيث يتم الاعتماد، ليس فقط، على إيرادات البترول كمصدر أساسي لدخل الدولة ولكن أيضاً على إيرادات الصناعات المستقبلية للمملكة، وخصوصاً في الصناعات ذات القيمة المضافة المتوسطة إلى العالية. ولعل من أهم متطلبات الاستثمار الناجح في الصناعة تشجيع ودعم المستثمرين (ورواد الأعمال المستقبليين) وتحقيق عوائد مجزية على استثماراتهم، وتوفير فرص عمل حقيقية للمواطنين المؤهلين، وخلق وظائف وفرص أعمال صناعية وتجارية جانبية، وزيادة دخل الدولة. وكي يمكن تعظيم العائد من الاستثمار في الصناعة وزيادة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي بشكل كبير، ينبغي تضافر الجهود والتنسيق والتكامل بين جميع الجهات الحكومية والخاصة، ومن أهمها قطاعات التعليم (وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني) والعمل، بشكل متواز، على تحقيق جميع متطلبات الصناعة.
خلال السنوات القليلة الماضية، تم التوسع في عدد الجامعات السعودية من أقل من عشر جامعات إلى 24 جامعة حكومية، قابلة للزيادة، إلى جانب عدد من الجامعات والكليات الأهلية، وذلك بهدف زيادة التنافس العلمي بين الجامعات، وإعادة هيكلة (تصغير الحجم) الجامعات، مع زيادة كفاءة إدارة هذه الجامعات، وتسريع وتيرة العمل الاستراتيجي والتشغيلي لها، والمساعدة على استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة والطالبات، وتوزيع وتخصيص الجامعات السعودية على مدن ومناطق المملكة. وهذا التوسع والانتشار هو جهد ملموس ومثمر تشكر عليه وزارة التعليم العالي والقائمون عليها، وهو يصب في النهاية في مصلحة الوطن من خلال تحقيق أهداف تعليمية استراتيجية.
وقد تكون عملية التوسع في الجامعات والكليات تركزت خلال الفترة الحالية على الإنشاء الفعلي للجامعات الجديدة كمبان، أو تفكيك وتقسيم جامعات قائمة إلى جامعات أصغر مثلما حدث مع جامعة الملك سعود وجامعة الملك فيصل وغيرهما. ولا شك أن هناك عددا من الفوائد التي ستعود على الوطن من جراء انتشار وتوسع تغطية الجامعات السعودية، منها توفير التعليم الجامعي لأبناء وبنات الوطن في عدة مناطق بدلاً من تمركزها في المدن الرئيسة، وتوفير فرص عمل لأبناء وبنات البلد سواءً في الوظائف الإدارية أو الفنية أو التعليمية، وتوفير فرص تجارية للمقاولين والتجار المحليين من خلال عقود الإنشاءات والتشغيل والصيانة وغيرها، وخلق جو أفضل ومجال أكثر للتنافس بين الجامعات السعودية. ومع هذه الفوائد المباشرة من التوسع في الجامعات، قد يكون من المجدي أن ننظر في بعض العوامل والخيارات الاستراتيجية التي تواجه قرارات التوسع في الجامعات السعودية، خصوصاً في ظل التوجه الاستراتيجي إلى الاعتماد على الصناعة كمصدر فاعل ثان لدخل المملكة.
هناك حالياً أكثر من مليون طالب وطالبة في مراحل التعليم الجامعية المختلفة، مع تزايد في أعداد الخريجين من التخصصات غير العلمية، والمقدرة بأكثر من (75 في المائة) من خريجي وخريجات الجامعات سنوياً. ولعل من أهم ما يلاحظ على التوسع في الجامعات والكليات السعودية، عدم التوجه إلى التركيز على التنويع والتوزيع في التخصص بين الجامعات، وخصوصاً ليتماشى مع الخطط الاستراتيجية للدولة، وخطط التنمية المتوالية، وخطط ومشاريع الجهات ذات العلاقة مثل وزارة التجارة والصناعة فيما يخص الصناعة، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا فيما يخص الابتكار، وغيرها من الخطط التي تتأثر وتؤثر في مخرجات التعليم، وكذلك أيضاً حسبما يتناسب مع الموارد الطبيعية والبشرية لمدن ومناطق المملكة.
وإذا أخذنا التوسع في الجامعات الجديدة، نجد أن الجامعات الجديدة تحتوي على التخصصات التقليدية في جامعات المملكة وخصوصاً النظرية منها بشكل أكبر، وبأعداد كبيرة مقارنة بأعداد الطلاب والطالبات القليلة جدا، بالمقارنة، بالتخصصات العلمية، بينما كان من الممكن (وما زال) التركيز على التخصصات الفنية والهندسية والصحية (فقط) في أغلبية أو كل هذه الجامعات، وهي حتماً التي ستخدم المملكة مستقبلاً بالشكل الصحيح. ويدعم هذا التوجه الاستراتيجي عدد من العوامل من أهمها:
1. المواقع الجغرافية لعدد من الجامعات مثل جامعة جازان، التي تتوافر فيها ثروة مائية وسمكية وزراعية، أو وجامعة حائل، والتي تتوافر فيها موارد طبيعية.
2. كثافة وكفاءة العنصر البشري (وخصوصاً الشاب منها) في بعض المواقع الجديدة للجامعات مثل مدينة جازان، الذي يحتاج فقط إلى دعمه والاستثمار فيه.
3. تضخم وتشبع سوق العمل من خريجي الجامعات والكليات (طالبي العمل) من ذوي التخصصات النظرية في جميع مدن المملكة ومناطقها، وصعوبة حصولهم على وظائف، مع وجود صعوبة بالغة في إعادة تأهيلهم. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها صندوق الموارد البشرية، إلا أن مؤشرات البطالة ما زالت في ازدياد، مع التأكيد على محدودية وعدم توافر بيانات دقيقة حول مشكلة البطالة.
4. استحواذ وجلب بعض المواقع الجديدة والبعيدة عن المدن الرئيسة مثل جازان وحائل عددا من الاستثمارات الزراعية والصناعية، مع توقع مزيد منها مستقبلاً.
5. التوافق مع الاستراتيجية الوطنية للصناعة، من حيث الاستثمار في صناعات ذات قيمة مضافة عالية، التي يتوقع أن يسهم فيها التعليم العالي بشكل كبير من خلال تخريج كفاءات بشرية سعودية في تخصصات فنية وهندسية وصحية.
وقد يكون من الأجدى أيضاً، تخصص كل جامعة في مجال معين. فيمكن، مثلاً، لجامعة جازان التركيز على الدراسات البحرية والزراعية، بينما تتخصص جامعة حائل في دراسات الصخور والبيئة، وجامعة الملك سعود في المياه والطاقة،... إلخ. وفي المجمل، ومع تركيز كل الجامعات على التخصصات العلمية، حيث تصبح نسبة الخريجين في التخصصات العلمية أكثر منها في التخصصات النظرية، ويمكن لكل جامعة التميز والريادة في مجال معين مثل الطاقة المتجددة. وهذا التوجه الاستراتيجي تم التركيز عليه في الاستراتيجية الوطنية للصناعة، ويتماشى أيضاً مع الممارسات في الجامعات الرائدة في مجالات الابتكارات، وخصوصاً في الولايات المتحدة.
كما أنه يجب التنويه بضرورة العمل والتنسيق بين وزارة التعليم العالي والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، لإعادة صياغة وتشكيل كليات ومعاهد المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني بما يخدم التوجهات المستقبلية للصناعة في المملكة، كما أشارت إليه الاستراتيجية الوطنية للصناعة. ويمكن النظر في تقسيم أو تجميع عدد من الكليات والمعاهد في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني على شكل تجمعات علمية صناعية أو جامعات صناعية، بما يتماشى مع متطلبات الصناعة المستقبلية في المملكة، التي قد تخلق وتوجد نوعا من التنافس بين هذه التجمعات أو الجامعات. ولعلنا نرى تحالفاً استراتيجياً بين البرنامج الوطني للصناعة ووزارة التعليم العالي والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني يدعم هذا التوجه، بما يخدم الوطن على مستوى تطوير الموارد البشرية وزيادة فرص عمل الشباب السعودي كعاملين ورواد أعمال.
ويجب التنويه بأنه يجب أن يتم تفعيل محور تطوير الموارد البشرية كما ركزت عليه الاستراتيجية الوطنية للصناعة، حيث يتم التركيز على سد الفجوة بين مخرجات التعليم والمتطلبات البشرية للصناعة المستقبلية. ودون رفع مستوى التعليم والتركيز بشكل كبير على المجالات العلمية والفنية التي تتطلبها الصناعة، إلى جانب المجالات الأخرى التي يحتاج إليها المجتمع مثل الطب، إضافة إلى تحويل الصناعات الحالية إلى صناعات ذات قيمة مضافة عالية تعتمد على الابتكار وتتطلب موارد بشرية ذات مهارات عالية. ودون التفعيل والاستثمار والدعم الحقيقي للكفاءات السعودية للعب دور أساسي في الصناعة، سواءً كرواد مستقبليين للأعمال أو كعمالة فنية حقيقية وبنسب توازي النسب المماثلة في الدول الصناعية المتقدمة مثل كوريا الجنوبية والبرازيل، سيستمر الوضع الراهن للصناعة كما هو، حيث يغلب، إن لم يسد، على عمالة المصانع العامل الأجنبي منخفض الكفاءة، مع عدم وجود أي أرباح مالية أو دخل للدولة، والمستفيد الوحيد في هذه الحالة هو المستثمر السعودي أو الأجنبي.
وللحديث بقية...