معرض الكتاب .. حضور للأدب وغياب للثقافة العلمية

نعم, بالتأكيد أثمرت الجهود وبات معرض الرياض الدولي السنوي للكتاب مهرجانا للثقافة وليس مجرد سوق لبيع للكتب ومكان تستعرض فيه دور النشر أحدث إنتاجها وآخر إصداراتها من الكتب والدوريات. معرض الكتاب في دورته الأخيرة, ومن دون حاجة إلى ذكر قيمة ما تم بيعه من كتب, استطاع أن يفرض نفسه كحدث ثقافي واجتماعي أيضا, فهناك اهتمام اجتماعي به, وكان هناك حرص على مستوى الأسرة واهتمام حتى من قبل طلاب المدارس والجامعات على زيارته والاطلاع على عالم الكتب, وهذا سينفع بالتأكيد في استثارة رغبة المجتمع, خصوصا الطلاب لممارسة القراءة. صحيح أن هناك ظواهر احتفالية وشكلية تثير القلق عند بعضهم من أن يتحول هذا الحدث الثقافي إلى مجرد ظاهرة احتفالية ما يقلل من المردود الثقافي لمعارض كهذه على المجتمع. إننا لا ندري ما أكثر الكتب مبيعا في المعرض, لكن مهما كانت حصة الثقافة الجادة بين مجموع المبيعات إلا أن استمرار المعرض وتوسيع الاهتمام به, خصوصا في أوساط الشباب, سيكون له بالتأكيد دور إيجابي وملموس في اتساع دائرة الثقافة باعتبارها من الجوانب التنموية المهمة في حياتنا. إننا نستبشر بكل الفعاليات والأنشطة حتى ما يدور فيها من شد وتدافع في قبول أو رفض عرض هذا الكتاب أو ذاك أو السماح لطرح هذا الكاتب من آراء وأفكار وبين من يدافع عن حق المجتمع والمهتمين بالشأن الثقافي في الاطلاع فقط على المنتجات الثقافية التي تتوافق مع المزاج العام, نحن في حاجة فعلا إلى أن ندخل في مثل هذا العراك الثقافي ليعطينا الفرصة لنرتقي بقدراتنا على الحوار, إضافة إلى استثمار فرصة المعرض للتقارب بين المثقفين واستكشاف بعضهم بعضا. هناك في العالم التحتي للثقافة تكال كثير من الادعاءات والتهم الباطلة ومن التلفيق للأقوال والتدليس والنطق باسم الآخر بالشكل الذي يشوه كل الأطراف ويجعل منهم كارهين ومكروهين, وهذا لا يصب في مصلحة الثقافة العامة للمجتمع لأن الثقافة يفترض بها أن تكون عالما منفتحا للتلاقي والتواصل بين كل مكونات المجتمع. بيئة المعرض تتيح الفرصة للثقافة المعلنة والظاهرة أن تقول كلمتها وألا تجعل من المجتمع ضحية فقط للمنتج الثقافي التحتي.
ما نريد مناقشته لا يخص فقط معارض الكتاب عندنا بل يكاد يكون سمة عامة لمعارض الكتاب عموما وبالخصوص العربية منها, وهو عدم احتفاء هذه المعارض بالثقافة العلمية وكأن الثقافة هي فقط محصورة في الجوانب والنشاط الإبداعي الأدبي, فأكثر ما يعرض من كتب هي كتب القصص والروايات ودواوين الشعر, وأكثر ما يحتفى بهم هم كتاب الأدب والشعر. هذه المعارض صارت ترسخ في أذهان الناس أن المثقف هو الأديب, والأديب هو المثقف, وأن علماء الكيمياء والفيزياء والفلك والهندسة هم علماء وليس لهم شأن بالثقافة, وبالتالي فمعارض الكتاب ليس المكان المناسب للاحتفاء بهم وتكريمهم. هذا الفهم للثقافة الذي ينظر إليها على أنها نشاط عاطفي ونفسي ومشاعري وليس للعقل والإبداع العقلي بذلك الدور المؤثر فيها هو في الحقيقة فهم لا بد من تجاوزه ونحن نعيش عصر العلم والمعرفة.
هو الإبعاد القسري للعلم من الثقافة باعتباره من مكوناتها الرئيسية, هو الذي أضعف الثقافة نفسها وأضعف قدرتها على رد ما يرد عليها من خرافة بأسماء ثقافية عديدة. لو تفحصنا ما يباع من كتب في المعارض والمكتبات لوجدنا أن كثيرا منها كتب تروج لثقافة الخرافة. الكتب التي تتحدث عن الجن والحسد والنفس وغيرها من الموضوعات التي تستغل جهل الناس ومخاوفهم لتروج لهم ثقافة مبنية وبشكل كبير على أوهام وخرافات وبعضها أكاذيب ومقولات لا تستند إلى حقائق هي كتب لها شعبية في المعارض, نحن في حاجة إلى تصحيح ميزان القوى في تركيبة الثقافة حتى يتسنى تخليص الناس من مثل هذه الثقافة. بل إنه حتى الثقافة الإعلامية التي تأخذ ببعض الأقوال العلمية لتنفخ فيها مادة ثقافية مبنية على المبالغات والاستنتاجات غير العلمية والعلاقات غير المنطقية ما يكرس الجهل في عقول الناس بل إنه يدفع بهم إلى سلوك ممارسات مبنية على مغالطات وليست حقائق هي الأخرى تجد لها رواجا في مجتمعاتنا.
فالعلم لا بد له من أن يكون مكونا رئيسا في تشكيل منظومتنا الثقافية, ولا بد للثقافة العلمية من أن يكون لها دور رئيس ومساحة واسعة في بناء شخصيتنا الثقافية, فالأدب والفنون والمعارف الإنسانية هي كلها جوانب مهمة ولا غنى عنها في البناء الثقافي, لكنها وحدها أو بالاكتفاء بها في الحقيقة تحجيم للثقافة في ممارسة دورها في بناء شخصية الإنسان والمجتمع. الثقافة العلمية هي الثقافة التي تعنى بموضوع الخروج بالعلم إلى الدائرة الإنسانية الواسعة, وهناك عدة نقاط يمكن مناقشتها لتوضيح مثل هذا الدور للثقافة العلمية, ومن هذه النقاط التي يمكن ذكرها باختصار ما يلي:
1 - إن مهمة الثقافة هي في تشكيل رؤى الإنسان وقناعاته, فبالثقافة يحدد الإنسان رؤيته وفهمه للحياة, وفي ضوئها يحدد الإنسان طبيعة كثير من مواقفه. وتغييب العلم في بناء ثقافة الإنسان يحدث خللا في تشكيل رؤى هذا الإنسان وقناعاته, فالأمور المطروحة اليوم على الإنسان والمجتمع, والتي ينتظر أن يتخذ موقف تجاهها, هي أمور في أغلبيتها تنطوي على مضامين وأسس علمية, وبالتالي فالثقافة العلمية هي التي تعين الإنسان على تشكيل الرؤى والقناعات والمواقف المناسبة, فمثلا كيف للإنسان أن يشكل رؤيته وموقفه بخصوص الاستنساخ وهو لا يلم بالحد الأدنى من المعرفة العلمية بعملية الاستنساخ. وهكذا الموضوع البيئي وما يتضمنه من حماية للبيئة الطبيعية وترشيد لمواردها والتقليل من الانبعاثات التي تتسبب في حدوث الانحباس الحراري, هذه كلها موضوعات باتت مهمة اجتماعية وتتطلب تفاعل المجتمع معها, لكن لن يتحقق المرجو من هذا التفاعل من دون ثقافة علمية عند المجتمع. وهناك كثير من هذه الموضوعات التي تندرج في هذا الإطار.
2 ـ إن التطوير العلمي في حاجة إلى استثمارات ودعم اجتماعي متواصل, وهذا ما يجب أن يتكفل به المجتمع نفسه, فالثقافة العلمية هي التي تزيد من وعي المجتمع بأهمية العلم, وهذا الوعي هو الذي يجعل من المجتمع مستعدا لتقديم دعمه ومساندته للبحوث ومشاريع التطوير العلمي. وللثقافة العلمية دور حتى في مجال توجه الإنسان والمجتمع نحو الأعمال الخيرية, فالجامعات في الغرب تنافس إن لم تتفوق على المؤسسات الدينية في استقطاب التبرعات الخيرية ومخصصات الأوقاف التي يقدمها الأفراد, وإلى هذا يعزى كثير من التقدم والتطور العلمي الموجود في هذه الجامعات والمراكز العلمية. نحن في حاجة إلى الثقافة العلمية ليقتنع الناس بأن دعمهم الجامعات ومراكز البحوث من أفضل الأعمال الخيرية, وهو فعلا من الأعمال الصالحة التي تحسب في ميزان أعمالهم, لأن الميزان في العمل الصالح هو مقدار ما في هذا العمل من منفعة للناس.
3 - القائمون على العلم وتطويره هم العلماء والباحثون, وهؤلاء في حاجة إلى تقدير ودعم معنوي من المجتمع لمزيد من العمل وبذل مزيد من الجهد والصبر على ما يتطلبه البحث العلمي من مشقة ومعاناة. صحيح أن المثقف عموما يعاني إهمالا وعدم تقدير يصل إلى حد الجحود في مجتمعاتنا إلا أن العلماء العاملين في المجال العلمي بالذات هم في حاجة إلى مزيد من التكريم والتقدير الاجتماعي, ودعم كهذا لا يحصل عليه العلماء في مجتمع هو في الأساس لا يشعر بالتقدير للعلم نفسه فكيف بتقدير العلماء؟ الثقافة العلمية مطلوبة ليكون عندنا مجتمع يكرم العلماء ويقدر جهودهم ويحتفي بعطائهم, فالمجتمع المثقف علميا هو الذي بمقدوره أن يقول شكرا لعلمائه, وهذا ما نفتقر إليه في مجتمعاتنا.
أخيرا, فلمعارض الكتاب السنوية والفصلية دور مهم في تعزيز الشأن الثقافي في المجتمع, لكن نحن في حاجة إلى توظيف مثل هذه المعارض أيضا في تفعيل الثقافة العلمية التي نحن في أمس الحاجة إليها لتنميتنا علميا, فلتتسع المساحة المخصصة للثقافة العلمية في هذه المعارض ولنزد من جهدنا في تكريم علمائنا ليس فقط باعتبارهم علماء بل أيضا كمثقفين ونساعدهم ونتيح لهم الفرصة لتثقيف مجتمعاتنا علميا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي