قوتنا.. إعادة التموضع
( 1 )
أمام الدول خيارات للقوة، فإما أن تكون قوة أممية «عالمية» كالولايات المتحدة، أو قوة إقليمية كالبرازيل في أمريكا اللاتينية، أو قوة وطنية كسويسرا في أوروبا، أو قوة محلية كدبي في الإمارات.
إن اختيار نوع القوة يخضع لعوامل متعددة، ثابتة ومتغيرة، ومنها الجغرافي والاقتصادي «الثروات»، التعليم والتدريب «الإنسان»، نوع القيادة، الظرف التاريخي، الدين، اللغة والثقافة.
إن اختيار نوع القوة قرار ذو مخاطرة وعائد يخضع لحسابات الحكمة السياسية في التقدير والتنبؤ بالمستقبل، فليس اختيار القوة الأممية بالضرورة سيكون له منافع وعوائد مرتفعة سياسياً واقتصادياً، بل قد يكون العكس، وكذلك اختيار أن تكون قوة وطنية فليس بالضرورة سيكون قراراً سهلاً ورشيداً لأن هناك قوى أخرى ستقوم بشغل هذا الفراغ الإقليمي وتهدد قوتك الوطنية.
( 2 )
إن أفضل قوة هي تلك القوة النابعة من الطبيعة أي غير المصطنعة لأنها أبقى كونها لا تصطدم مع قدرها.
السعودية بها من عوامل القوة ومنها: القوة الجغرافية فنحن (2.15 مليون كيلو متر مربع) وتحيطنا المياه من ثلاثة جوانب مع أخواتنا في جنوب الجزيرة العربية.
والقوة الاقتصادية إذ تعتبر المملكة أكبر اقتصاد عربي، كما أنها من أهم وأكبر عشرين اقتصادا في العالم، حيث يبلغ ناتجها المحلي 1.5 تريليون ريال مشكلاً نسبة 25 في المائة من إجمالي الناتج القومي العربي.
ولدينا احتياطات نفطية وغاز ومعادن ثمينة ضخمة تشكل 25 في المائة من إجمالي احتياطي النفط في العالم، حيث تصل احتياطياتها إلى 266.8 مليار برميل مؤكد وهو ما يكفي لأكثر من 120 سنة أي لأربعة أجيال مقبلة ـ بإذن الله.
والقوة التاريخية الدينية والقومية فنحن أرض الرسالة والمقدسات الإسلامية (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، ومنها خرج الفاتحون فكانت الخلافة على هدي النبوة فقريش في الشام «بنو أمية» فالعباسيون في بغداد ومحمد الفاتح في القسطنطينية ثم تصالحت السياسة مع الدين في الجزيرة العربية فكانت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود فولد مشروع الاستقرار والأمن والتنمية محققاً عقدا اجتماعياً متماسكاً لأكثر من 300 عام تواجهه مشكلات كأي نظام سياسي، ولكن مزيته روح القيادة التي تسري في البيت السعودي فهو مستمع جيد للغاية ويعرف أكثر مما تتوقع أو تتخيل. ودائماً.. دائماً.. المراجعة ثم السيطرة فالقفز للأمام، فهو نظام يعتمد على الترويض أو استنزاف العدو ثم الضربة القاضية في الجولة الحادية عشرة، ولا يتمتع بتلك الميزة إلا أعرق الديمقراطيات.
القوة البشرية فنحن مجتمع فتي يبلغ مواطنوه أكثر من 20 مليون نسمة، أكثر من 60 في المائة منهم أقل من 20 عاما والشباب له دائماً صبوة يفكر في المستقبل ويندفع للأمام بقوة.. ذات يوم اصطحبت رجل البيع الأول في أمريكا وكنت أسأله كما أسأل غيره من العقلاء.. اذكر لي أبرز ما في السعوديين سلباً وإيجاباً.. فما كان جوابه إلا أن قال.. السعوديون يحدثونك عن المستقبل والدولة على عراقة تاريخها فكأنما بنيت بالأمس «حديثة» وعندكم من التسامح وحسن الضيافة ما يجعلني حزينا على الأفكار الخاطئة التي نحملها عنكم .. ثم قلت له ما السلبيات؟ فأجابني .. ولن أحدثكم ماذا قال.. أتدري لماذا.. لأننا مجتمع فتي ينظر للمستقبل والمستقبل فقط.
قوة وحدتنا الوطنية «التماسك الداخلي» لقد اُختبرنا مرات عدة ومن أبرزها أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) وغزو العراق وتخريب الخوارج الجدد، وقد راهن البعض على اهتزاز وحدتنا، فما كان جوابنا.. إلا مزيدا من الالتفاف حول الشريعة والشرعية وتصرف الجميع كقادة سياسيين وعلماء ومفكرين ومثقفين ومراكز الرأي بعقلانية أظهرت وعينا السياسي المتقدم وأثبتنا للعالم أننا يمكن أن نختلف ولكن اختلافنا سيكون على الفروع لا الأصول وعلى الممارسة لا المبادئ، ولو كان تروتسكي حياً لعجب من تلك الآله غير الحزبية التي جعلت هؤلاء يتناغمون فيما بينهم كأنهم أعضاء في أمانة واحدة لأكبر الأحزاب شمولية في التاريخ الحديث.. إن من ألّف هو الله: قال تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (63) الأنفال.
إن قدر هذه الجزيرة العربية الوحدة .. والوحدة فقط .. شئنا أم أبينا.
( 3 )
عليه أتمنى أن تكون قوتنا الطبيعية، قوة إقليمية داخل شبه الجزيرة العربية في شراكة متكافئة مع دول مجلس التعاون الخليجي والجمهورية اليمنية وأهلنا القبائل والعشائر «ثقافياً» في شمال شبه الجزيرة العربية.
لأننا وهؤلاء يجمعنا الدين والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والقرابة والنسب والمصير المشترك فضلاًً عن منطق التفكير الواحد والملبس والمأكل والأذواق حتى الشكل الخارجي.
أتمنى أن تكون قوتنا الطبيعية أيضاً قوة أممية إسلامية بالتحالف مع العثمانية الجديدة في تركيا وماليزيا الحضارية في جانبين فقط هما المساعدة المادية والعينية من خلال المنظمة الدولية السعودية الخيرية باسم «المساعدة السعودية» والتي ستنضوي تحتها كل المؤسسات السعودية الخيرية العاملة خارج المملكة في إطار خطة شاملة ومنظمة ثم الجانب الآخر: الثقافة المعتدلة فنقوم ببناء المراكز الإسلامية وابتعاث الطلاب المسلمين لأفضل جامعاتنا الإسلامية بأم القرى والجامعة الإسلامية وتعليم اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكذلك طباعة المصحف الشريف بمجمع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ والسنة النبوية عبر مجمع جديد، أضف إلى هذا وذاك دعم المنظمات الدولية الإسلامية كرابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
علينا أن نتجاوز الملفات العربية باستثناء ملف القضية الفلسطينية والذي سبق أن تحدثت عنه في مقالتي «المقاومة .. الخيار السعودي» لأن الملفات العربية شائكة وتحكمها الغرائز والابتزاز فعوائدها السياسية قليلة واصطدامنا مع قوى إقليمية عربية أخرى محتوم، وعلينا أن ندعهم لخياراتهم ثم سيعودون يطلبون المشورة والدعم.
( 4 )
إن الشرق الأوسط يحتاج لقوتنا الإقليمية والأممية المركزة والمحددة والمؤمن بها من شركائنا وحلفائنا على جميع المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية والرموز الوطنية مدعوماً بمراكز تفكير استراتيجية بها أفضل عقول شبه الجزيرة العربية فنحن جميعاً سنجني ثمار القوة.
يقول برنارد لويس في كتابه «مستقبل الشرق الأوسط» متنبئاً بحدوث فراغ أممي نظراً لانسحاب القوتين العظميين من المنطقة ما يشكل تحدياً كبيراً للقوى الإقليمية لملء هذا الفراغ، يقول: «.. لكن روسيا مرحلياً قد أصبحت خارج اللعبة وستبقى لسنين طويلة هكذا أما أمريكا فستبقى مترددة في أن تدخل اللعبة. وهذا يعني أن الوضع سيعود إلى ما كان عليه سابقاً. القوى الخارجية لها مصالح في المنطقة استراتيجية واقتصادية وهي ستتدخل بين وقت وآخر في قضايا الشرق الأوسط وتؤثر في مجرى السياسات فيها لكن لن يكون دورها دور السيطرة الكاملة أو اتخاذ القرارات الحاسمة».
إن العالم سيتجه إلى استراتيجية تعدد الأقطاب بين قوى إمبراطورية أو قوى إقليمية أقل قوة ونحن قدرنا فاعل دائماً لأننا حملة راية التاريخ والجغرافيا والرسالة وأذكياء في اختيار التوقيت وإعادة تموضعنا الاستراتيجي قد حان وقته.
إن إظهار قوتنا والاحتفال بها ضرورة.. قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ (60)» الأنفال.
إن غاية القوة بث الطمأنينة والثقة بالحاضر والمستقبل فيندفع الناس بالعمل والاستثمار والسباق والمثابرة كما أن غايتها تخويف العدو وردعه - فيستمع للحكيم أرسطو حينما كان يربي الإسكندر المقدوني منذ أن كان عمره 13 عاما، ويقول له عندما أراد أن يغزو فارس للانتقام لقتل أبيه «غيلة» وهي عادة القوم فقال له آنذاك إياك وجزيرة العرب فإن بها قوماً ذوي بأس يجيدون القتال كراً وفرا يعرفون أرضهم جيداً -. أو تخويف المشككين الذين يتربصون بنا فإما يسقطون أحلامهم المريضة أو يؤجلونها إلى زمن غير محدود.
إن قوتنا الطبيعية النابعة من مقوماتنا الجغرافية والاقتصادية والبشرية والدينية والاجتماعية السياسية ستكون قوة إقليمية مركزة في مجالها الحيوي في شبه الجزيرة العربية وتواصلا أمميا ثقافيا فاعلا ومعتدلا مع العالم الإسلامي ما سيؤدي للانسحاب السياسي التدريجي من مناطق عربية ودولية وتوظيف الطاقة الفائضة نحو خطوات استراتيجية كبرى نحو نشاط اقتصادي تنموي واستثمار وانفتاح اجتماعي وبشري أكبر مع ذلك المجال الجديد.
أيها السعوديون.. الضربة القاضية مقبلة فالجميع منهك باستثنائنا.