الأستاذ البليهي والتنظير لثقافة الانعتاق (2 من 2)

لماذا كل هذا الاهتمام من قبل الأستاذ البليهي بفكرة الانعتاق؟ هل وصل الحال بأمتنا ومجتمعاتنا الإسلامية إلى هذا الحد من السوء لنفترض أنها باتت غير قادرة على النهوض بنفسها لكثرة ما تراكم عليها من قيود أعاقت حركتها وشلت قدرتها؟ وهل هذه النظرة السوداوية لواقع الحال هي من باب التلذذ بجلد الذات والانبهار بالآخر؟ هل يريد لنا الأستاذ البليهي أن ننفك وننعتق من ذواتنا التي باتت مشوهة بفعل ثقافة عطلت تفكيرها وانحطت بقيمها وانحرفت بأخلاقها وأفسدت عليها ذوقها؟
فما دام هناك واقع متخلف, وما دامت هناك ثقافة معطلة لإرادتنا ومعوقة لتفاعلنا مع الحياة فإن الانعتاق بمعناه الانسلاخ من هذا الواقع والتخلي عن هذه الثقافة يصبح مسألة ضرورية لممارسة وجودنا في هذه الحياة. ليس الأمر جلدا للذات بقدر ما هو تقييم للواقع وتصحيح للمسار وتشخيص للمرض واستكشاف لأفضل طرق العلاج. ربما يظن بعضهم أن الاعتراف بالخلل والإقرار بالنقص هو في حد ذاته شعور بالدونية في مقابل الآخرين, لكن هذا الإحساس هو أول ما نحن في حاجة إلى التخلص منه لأن من غير الاعتراف بالعيب والإقرار به لا يكون هناك دافع للتغيير. الانعتاق المقصود هو محاولة لتحرير أنفسنا كي ننظر إلى الواقع بموضوعية, كي نرى ما نحن عليه بتجرد ومن غير تزويق, كي نتخلص من سلطة الواقع الذي جعلنا نظن أن ما نحن عليه هو قدرنا وأن أبواب التغيير موصدة أمامنا, وأن التطلع إلى المستقبل هو من الأمور المحرمة علينا, وأن الارتماء في أحضان الماضي هو صك الخلاص والبراءة لنا.
وكما ذكرنا في الحلقة الماضية أن الانعتاق حركة موجهة, وهذه الحركة يصحبها تغيير, وبالتالي تتعطل الحركة إن لم نؤمن أن التغيير هو من سنن الحياة وهو الابتلاء لإرادة الإنسان للارتقاء بنفسه وحياته. وأشرنا أيضا إلى أننا نبتغي انعتاقا في دائرة الإيمان, فهو انعتاق يريد بالإنسان ألا يقف في مسيرته إلى الله ـ سبحانه وتعالى, الدين ليس نصوصا جامدة وليس مجرد طقوس شكلية, هو نور إلهي ينتظر من الإنسان أن يفتح له كل يوم مزيدا من أبواب نفسه, وليس بمقدور هذا الإنسان أن ينفتح على الدين وهو يعطل فكره أو يرتهنه لغيره, فالدين ثابت ومحفوظ لكن تدين الإنسان هو الفعل المتجدد وعلى الإنسان أن يوظف كل علمه وثقافته ليتحرك بتدينه في دائرة الدين لمزيد من الارتقاء بنفسه. أما الانعتاق والثقافة فهناك إشارة إلى المراحل الأولية للانعتاق, فالانعتاق أول ما يتبلور في داخل أعماق النفس الإنسانية حيث هناك يستقر ما تنتجه الثقافة من قيم وأفكار وقيم وقناعات وعقائد, فأول ما يصطدم به الانعتاق في حركته بالثقافة, ولعل المواجهة مع الثقافة هي التي تحدد ما ستكون عليه طبيعة ومصير هذا الانعتاق.
لا يمكن أن نحصر أوجه الانعتاق المطلوبة لكن سنتطرق إلى بعضها وبشكل موجز:
1 ـ يختزن اللاوعي من أذهاننا ولعا كبيرا بالماضي القريب والبعيد, فنحن نفحص الحاضر في إطار الحنين إلى الماضي, ونتطلع إلى المستقبل بأمل أن يعيد لنا صورة الماضي. هذا الارتباط النفسي بالماضي أخل أولا بثقتنا بأنفسنا وجعلنا لا نعتقد أننا على الأقل بقدر من سبقونا نفسه, فصرنا بلا وعي نستجدي الماضي لحل مشكلاتنا المعاصرة ونستنسخ الأشكال نفسها من التفكير للتعامل مع واقعنا ونكرس المشكلات نفسها التي انشغل بها من سبقونا. لا يعقل أن نضيق من دائرة حياتنا فقط من أجل أن تتطابق مع دائرة الماضي لأن في هذا تعطيلا لفعلنا وتوقيفا لزمننا. ولا يعني هذا الكلام أننا لا نريد للماضي أي حضور في وعينا وتفكيرنا وحياتنا, فهذا ليس بمقدورنا فعله لأن الحياة هي ليست بالحلقات المنفصلة عن بعضها, بل المقصود هو التخلص من هذا الحضور المهيمن للماضي على حاضرنا, وهذا هو الانعتاق. الماضي لم يأت بنفسه ليكون له كل هذا الحضور عندنا, ومشكلات الماضي وطرق تفكير من سبقونا لم تتكفل جيناتنا الوراثية بنقلها إلينا, لكن نحن من سافر ورحل لجلبها إلينا, وبالتالي علينا الآن أن نغير من وجهتنا, فننشغل بحاضرنا بما فيه من مشكلات وما يحويه من تحديات, وأننا نحن وليس غيرنا من عليه مسؤولية تشكيل هذا الحاضر والإعداد للمستقبل. ليس المطلوب أن نقرأ الحاضر في إطار الماضي, بل علينا أن نقرأ الماضي في إطار الحاضر, وأن نشكل الحاضر في إطار ما نريده في المستقبل, هذه النظرة ليس فيها تقليل من شأن الماضي بقدر ما هو إعادة لشأن الحاضر, فنحن لا نستطيع أن نبني هذا الحاضر ونحن نعيش في الماضي, وكيف يكون لنا مستقبل ونحن بعد لم نصل إلى الحاضر؟ولعل الأستاذ البليهي عندما يصف حالنا بأنه أكثر من أنه واقع متخلف فلعل ما يعنيه هو أننا لم نصل بعد إلى الحاضر حتى نتسابق مع الآخرين على المستقبل.
2 ـ نحن في حاجة إلى أن ننعتق من ثقافتنا ونخلص أنفسنا من سلطانها لا لنستبدلها بثقافة أخرى نستوردها من هنا وهناك كما يظن البعض عندما يدور أي حديث عن الإصلاح الثقافي. الانعتاق هنا هو من أجل النظر إلى الأمور على حقيقتها, فالثقافة هي ذلك المجموع من القيم والأفكار والقناعات والممارسات التي يتشكل وعينا وتفكيرنا وشخصياتنا في إطارها, وبالتالي فالمجتمع في حاجة على الدوام إلى مراجعة ثقافته ليخلصها من قيم قد تسربت إليها, وهي معوقة لحركتها وتنقيتها من أفكار وقناعات ربما تكون صالحة لزمان غير زماننا ولظروف غير ظروفنا. ثقافة مجتمعاتنا العربية والإسلامية فيها كثير مما نحن في حاجة فعلا إلى التخلص منها, فنحن نعتقد ثقافيا أن الزمن والحضارة في انحدار, وبالتالي فتخلفنا وانحدار أوضاعنا لا يستثيرنا ولا يستفزنا ولا يحرك إرادة التغيير عندنا حتى إن استنكرناه كلاميا, لأن الانحدار في وعينا سنة طبيعية. ونحن على الرغم مما نراه من تـأثير للعلم في تطوير الحياة وارتقائها إلا أننا لا نعطي للعلم قيمة في تشكيل ثقافتنا, فالعلم مغيب في تشكيل شخصياتنا الثقافية وهذا أدى إلى خلل كبير في فهمنا وتعاملنا مع الحياة وما ورائها من سنن طبيعية وكونية. هناك قيمة ثقافية اجتماعية أنتجت لنا كثيرا من الخلل في علاقاتنا الاجتماعية, وهي قيمة الإجماع, فنحن ننزع وبشكل مرضي إلى حالة الإجماع, وبالتالي صرنا لا نتقبل الرأي الآخر ولا نستسيغ التنوع في الآراء. قوة رغبتنا في الحصول على الإجماع ليس فقط جعلتنا نكره الرأي الآخر المخالف لنا, لكن جعلتنا نرى فيه فتنة وابتداعا, بل صارت هذه الرغبة بيئة طاردة وغير مرحبة بالإبداع وإنتاج الأفكار الجديدة, وبالتالي فليس من المستغرب أن نراوح مكاننا وألا نتطور كما تطور غيرنا, كيف لنا أن نتطور ونحن نفتقد التفكير والإبداع وننزع إلى الإجماع, خصوصا عندما يجتمع هذا الإجماع مع حبنا وتعلقنا بالماضي. وهناك قيم أخرى في حاجة إلى المراجعة نفسها حتى يتم التخلص منها.
3 ـ إذا كننا ننظر إلى الانعتاق على أنه سلسلة من الحلقات فإن هذه السلسلة لا تستكمل إلا بالانعتاق من قيد هذا التمذهب الذي فرق مجتمعاتنا وشتت جهودنا الفكرية وبعثر مواردنا الاجتماعية وعزز مشاعر العداء والكراهية بين فئات مجتمعاتنا. ليس المطلوب أن ننعتق من المذاهب بقدر ما نريد أن ننتعتق من هذا الاستقطاب المذهبي والانغلاق الطائفي الذي ألغى معظم مساحات الاشتراك بين المذاهب والطوائف. لقد افتقدنا كثيرا من الحرية وكثيرا من وحدتنا كمجتمع بسبب هذا الاستغراق المذهبي.
4 ـ التخلص والانعتاق من تحميل المسؤولية للآخر عن تخلفنا ومشكلاتنا. هذا الإحساس جعلنا ننشغل باتهام الآخرين بأنهم يتآمرون علينا على حساب التصدي بأنفسنا لمواجهة مشكلاتنا. نحن في حاجة إلى أن ننعتق من هذا الوهم وأن نستبدله بحقيقة أن المسؤولية هي مسؤوليتنا وأن تحدي الآخر الذي يريد الاستقواء علينا هو جزء من عملية تعديل واقعنا وتطوير أحوالنا.
وكما ذكرنا فإن الانعتاق سلسلة من الحلقات, ولا نعتقد أننا قد استكملنا بهذه النقاط الأربع كل السلسلة, وربما يكون لنا في المستقبل فرصة لمزيد من الحديث عنها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي