160 ألف متهم

استبشر الجميع بالإجراءات التي سنها مجلس الوزراء الأسبوع الماضي بشأن جرائم الشيك, إلا أن بعضهم اختلط عليه الأمر؛ ففهم أن سحب شيك ليس له مقابل وفاء، لم يُجرّم إلا بموجب هذا القرار. حتى إن بعض عناوين الصحف خرجت تحمل هذا المعنى. والصحيح أن الأوراق التجارية, والشيك أحدها, منظمة بموجب نظام الأوراق التجارية الصادر في 11/10/1383هـ, واشتمل النظام على الجزاءات الخاصة بجرائم الشيك, ثم عدلت أحكام الجزاءات وتم تشديد العقوبات في 12/9/1409هـ, إذ تصل عقوبة السجن إلى ثلاث سنوات, وفي حال العود لارتكاب الجريمة ربما تصل إلى خمس سنوات.
وقرار مجلس الوزراء الجديد يعالج إجراءات التحقيق في هذه الجرائم بإسناد ذلك إلى هيئة التحقيق والادعاء العام، واعتبار هذه الجريمة موجبة للتوقيف الاحتياطي أثناء مرحلة التحقيق. ويحدد القرار 30 يوما للجان الفصل في منازعات الأوراق التجارية للفصل في الدعاوى المرفوعة أمامها, ويؤكد تشديد العقوبة.
إذن, على صعيد التجريم لم يتغير شيء, والتغيير هو على صعيد الإجراءات. فهل سيحدث ذلك أثرا إيجابيا يحد من هذه الجريمة؟ وما تأثيرات ذلك في منظومة الإجراءات الجنائية في المملكة؟
تذكر التقارير أن هناك 160 ألف شيك مرتجع عام 2009, بمبالغ تزيد على 14 مليار ريال, وهذه أرقام مهولة. وبافتراض تحقق موجبات العقوبة الواردة في المادة 118 من النظام؛ فإننا أمام 160 ألف متهم محتمل. وهذا عبء كبير على سير الإجراءات الجنائية, خاصة أن عددا غير قليل من متضرري الشيكات المرتجعة، لا يلجؤون في السابق إلى لجان الفصل لطول مدة الفصل وضعف الأحكام، أما الآن وقد بات توقيف الساحب أمرا محتملا, فإن المطالبات ستزيد، سعيا إلى حمل الساحب على الدفع تجنبا للتوقيف الاحتياطي متى تحققت شروطه.
قد يحمل القرار من امتهنوا سحب شيكات بدون رصيد على مراجعة أنفسهم, لكن ذلك مرهون بالآلية التي سيطبق من خلالها هذا القرار, وبالتبعات الإجرائية المرتبطة بذلك, وهو أمر ستسفر عنه الفترة القادمة.
الحماية الجنائية للشيك تستهدف ضمان الثقة, ليؤدي الشيك دوره على النحو الذي شرع من أجله. هذه الطبيعة الخاصة جعلت القوانين تسن ما يعرف بالتصالح في جرائم الشيك, حيث تنقضي الدعوى الجزائية أو يوقف الحكم النهائي، إذا تم الصلح بين المجني عليه والمتهم في جريمة الشيك؛ لأن التدخل الجنائي جاء لحماية مصلحة المجني عليه في هذه الجريمة, وأصحاب الحقوق لا يعنيهم السجن وإنما يرغبون في الحصول على حقوقهم.
والحقيقة أن نظام الأوراق التجارية ونظام الإجراءات الجزائية لم يتضمنا أحكاما تتعلق بالصلح. وأعتقد أن ذلك سيشكل عبئا أكبر على هيئة التحقيق والادعاء العام, ولجان الفصل, ودور التوقيف والسجون. ذلك أن وجود قواعد تتعلق بالصلح كان كفيلا بالحد من هذه القضايا متى وفّى المتهم بالتزاماته, ولتكون الحماية الجنائية وسيلة, وليست غاية في حد ذاتها. وليت القرار الأخير تفادى ذلك بسن قواعد وإجراءات في حال الصلح, تخول هيئة التحقيق والادعاء العام حفظ التحقيق، أو الأمر بوقف تنفيذ العقوبة، كما تنقضي الدعوى الجزائية أمام لجان الفصل إذا تم الصلح.
من جهة أخرى؛ فإن جهة الفصل في جرائم الشيك، وهي لجان إدارية، تثير إشكالا قانونيا, ذلك أنه لا يجوز توقيع عقوبة جزائية من غير محكمة وفق أحكام المادة 3 من نظام الإجراءات الجزائية. والعقوبة الجنائية يجب أن تحاط بضمانات كافية, وعلى رأس هذه الضمانات أن تصدر من محكمة مختصة ومن قاض محترف, فضلا عن أنه لا يستقيم من الناحية الإجرائية أن تدعي هيئة التحقيق والادعاء العام, واختصاصاتها لها صفة قضائية, أمام لجان إدارية.
إن مشكلة الشيكات المرتجعة عميقة وذات أبعاد قانونية واقتصادية، وأخشى أن البعد الاجتماعي على الأبواب. وطريقة معالجتها منذ صدور نظام الأوراق التجارية تعطي درسا مفاده: أن الحلول القانونية المؤقتة لا تجدي نفعا، وليست إلا مسكنات ثم تظهر لاحقا الآثار السلبية. فقد كان الاعتقاد سابقا بأن سبب وجود هذه الشيكات هو ضعف العقوبات, ولذا تم تعديل العقوبات بالتشديد، إلا أن المشكلة استمرت في التزايد. ونحن اليوم نعول على إجراءات التحقيق والتوقيف الاحتياطي, وسرعة الفصل, وعقوبة السجن والتشهير, للحد من هذه الجريمة. وأرجو أن يتحقق الغرض من هذه الإجراءات، وألا ينشأ عنها سلبيات تفوق الإيجابيات المتوخاة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي