الحكم الأخير في قضية تصدير الغاز المصري لإسرائيل

في يوم السبت 13/3/1431هـ الموافق 27/2/2010، أصدرت المحكمة الإدارية العليا المصرية، وهي أعلى درجات التقاضي في محاكم مجلس الدولة المصري، حكمها في قضية تصدير الغاز الطبيعي إلى إسرائيل والتي سبق أن رفعها المواطن المصري (سفير سابق) إبراهيم يسري التي طالب فيها بوقف تنفيذ قرار وزير البترول المصري المتضمن بيع الغاز لإسرائيل، حيث حكمت محكمة القضاء الإداري (محكمة أول درجة) في 18/11/2008 بوقف تنفيذ القرار المذكور، مما يعني وقف تصدير الغاز لإسرائيل. وإزاء امتناع الحكومة المصرية عن تنفيذ الحكم المذكور فقد رفع المدعي السفير السابق إبراهيم يسري دعوى أخرى طالباً فيها الحكم بإلزام الحكومة بتنفيذ الحكم المذكور بأسرع وقت ممكن، وأصدرت محكمة القضاء الإداري حكماً آخر في 6/1/2009 ألزمت بموجبه الحكومة بتنفيذ حكمها السابق بالرغم من استئنافه من قبل الحكومة، ثم نظرت المحكمة الإدارية العليا في الطعن المقدم من الحكومة وأصدرت في 2/2/2009 حكماً تمهيدياً يقضي بوقف تنفيذ الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري حتى يتم النظر في موضوع القضية في ضوء الرأي القانوني الذي ستعده هيئة مفوضي الدولة في هذا الشأن، وترتيباً على ذلك استمر تصدير الغاز الطبيعي المصري لإسرائيل. ثم أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمها الأخير في الموضوع الذي تضمن إلغاء حكم محكمة القضاء الإداري سالف الذكر، حيث اعتبرت المحكمة الإدارية العليا أن تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل وغيرها عمل من أعمال السادة يخضع لاعتبارات الأمن القومي المصري ويخرج عن نطاق رقابة القضاء الإداري. ويعد هذا الحكم نهائياً وغير قابل للاستئناف أو الطعن فيه. وبذلك كسبت الحكومة المصرية القضية، وتبعا لذلك تعتبر إسرائيل الرابح الأكبر من هذه المعركة القضائية لأنها ضمنت بحكم قضائي نهائي استمرار تدفق الغاز المصري في شريان الاقتصاد الإسرائيلي.
لقد سبق لكاتب هذه السطور أن تناول بالبحث والتعليق الجوانب القانونية والاقتصادية لقضية تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل في ثلاثة مقالات نشرت جميعها في جريدة ''الاقتصادية''، حيث نشر المقال الأول بعنوان (على هامش حكم القضاء المصري بوقف تصدير الغاز لإسرائيل) بتاريخ 29/11/2008، ونشر المقال الثاني بعنوان (تصدير الغاز المصري ونظرية تغير الظروف) بتاريخ 6/12/2008، ونشر المقال الثالث بعنوان (وقف تنفيذ الحكم بمنع تصدير الغاز المصري لإسرائيل ومبدأ السيادة) بتاريخ 14/2/2009.
ولا أريد هنا أن أكرر ما سبق بحثه وبيانه في تلك المقالات وإنما أريد أن ألفت النظر إلى بعض الملاحظات التي استخلصتها من بعض حيثيات حكم المحكمة الإدارية العليا التي تداولتها وسائل الإعلام، فأقول ما يلي:
أولاً: إن اعتبار المحكمة الإدارية العليا مسألة تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل وغيرها من الدول أمرا سياديا لا يخضع لرقابة القضاء يدحض أحد أوجه دفاع الحكومة المصرية في هذه القضية بأن بيع الغاز لإسرائيل ليس إلا صفقة تجارية لا دخل للحكومة المصرية بها لأنها تمت بين شركات تجارية لها شخصيتها الاعتبارية المستقلة ولم تتم على أساس اتفاق بين الحكومة المصرية والحكومة الإسرائيلية، كما أنها لم تكن قد أبرمت باتفاق بين الحكومة المصرية وشركة. فالحكم بأن بيع الغاز المصري لإسرائيل يدخل ضمن أعمال السيادة التي تخرج عن نطاق رقابة القضاء يعني أن بيع الغاز لإسرائيل لم يكن بالإمكان إجازته إلا بعد قرار حكومي سيادي في هذا الشأن.
ثانياً: إن المحكمة الإدارية العليا، وإن اعتبرت بيع وتصدير الغاز لإسرائيل عملاً من أعمال السيادة الخارجة عن نطاق رقابة القضاء، إلا أنها قررت وقف تنفيذ قراري رئيس مجلس الوزراء ووزير البترول المتعلقين بمدة تصدير الغاز لإسرائيل والسعر المربوط له، لعدم تضمنهما آلية للمراجعة الدورية لكمية الغاز المصدرة وأسعاره خلال مدة التعاقد وإلغاء سقف الاسترشاد بسعر النفط الخام عند حد 35 دولاراً للبرميل، وهذا يؤكد صحة ما جاء في الدعوى بأن الغاز المصري كان يباع بأسعار متدنية تقل عن الأسعار العالمية. وهو أمر سبق أن اعترف به بعض المسؤولين المصريين وصرحوا بأن الحكومة المصرية بصدد إعادة النظر في جميع عقود تصدير الغاز المصري إلى الخارج والتفاوض مع المستوردين من أجل تعديلها بالتدريج.
وجدير بالذكر في هذا الصدد أن بعض وسائل الإعلام نسبت تصريحاً للسفير إبراهيم يسري، مقيم الدعوى، بشأن الحكم الأخير مفاده أنه وإن كان يطمح إلى وقف تصدير الغاز المصري لإسرائيل وليس وقف بيعه بالأسعار السارية، إلا أنه يعتبر الحكم (متوازن) لأنه دان الإجراءات التي اتخذتها الحكومة ونتج عنها تصدير الغاز بسعر أقل من الأسعار العالمية ولمدة زمنية طويلة تصل إلى (20) عاماً.
ثالثاً: أشار حكم المحكمة الإدارية العليا إلى مخالفات أخرى في هذه القضية وقعت فيها الجهة الحكومية المختصة تتمثل في عدم وجود آلية للمراجعة الدورية للاحتياجات المحلية التي ينبغي أن يكون لها الأولوية قبل التصدير. وكأن المحكمة تريد أن تقول إنه يتعين وقف تصدير الغاز المصري إلى الخارج إذا كان الإنتاج المحلي لم يعد كافياً لتغطية احتياجات السوق المحلية.
وفي الختام أقول إن هذا الحكم الأخير قد حطم ولا ريب آمال المعارضة المصرية في وقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل ولا يتواكب مع موقف الشعب المصري العظيم، الذي، رغم مرور أكثر من 30 عاماً على توقيع معاهدة السلام، ما زال يرفض تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب الذي ما زال يحتل أراضي عربية احتلالاً عسكرياً واستيطانياً بغيضاً ويواصل سياسة التوسع وتهويد الأرض والمقدسات ويفرض حصاراً خانقاً على قطاع غزة وينتهك حقوق الإنسان الفلسطيني انتهاكاً جسيماً وخطيراً دون أي رادع عربي أو عقاب دولي.
ورحم الله زماناً كانت فيه مصر تقود حملة إعلامية وسياسية عربية شديدة ضد إيران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي بسبب تزويدها إسرائيل بالنفط وتعاونها معها في مجالات حيوية متعددة، وأصبحنا في زمن تزود فيه إسرائيل بالغاز العربي وتقيم معها بعض الدول العربية علاقات دبلوماسية واقتصادية، وتتاجر إيران بالقضية الفلسطينية وتسرب نفوذها إلى مناطق مهمة من الوطن العربي، فعاثت فيها، ولا تزال، فساداً كبيراً، وأصبح الوطن العربي واقعاً بين مطرقة الخطر الصهيوني العنصري التوسعي وسندان خطر الهيمنة الإيرانية الطائفية، ولا شك أن مآل هذا الحال إلى زوال لأن دوام الحال من المحال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي