التفكير العلمي والمستقبل
على مر التاريخ كان هناك صراع بين الأجيال صراع فكري وثقافي وهناك اختلافات فيما بين الطرفين بعضها عادي وبعضها في الصميم،وهذه الاختلافات تصبح حروبا وانحيازات ثقافية كلية،لكن مع الوقت تتكشف الحقائق وتصبح هذي الحروب بلا أسانيد، وتسقط عنها الأسباب التي جعلتها مرفوضة من قبل المجتمع.
ويذكر المؤرخ الدكتور حسين أبو عرابي أن المجتمعات تتطور وتتطور أدواتها مع الوقت،وبالتالي تتغير منظومتها الثقافية وآليات عملها وأطرها الحاكمة،ويضيف أبو عرابي: في الثلاثينيات لم تكن أجهزة الترانزسستور معروفه لدى الناس،وبالتالي كان البعض يعبر عن اندهاشه من سماع صوت المذياع، ويذكر أن عائلة ريفية كانت تجهل كيفية إغلاق المذياع، ولم تجد إلا أن تضع عليه أكواما من الحرامات تسمى»اللحف» كي يصمت.
ويشير الدكتور علي زيغور إلى أن الحياة الاجتماعية كانت أكثر اقترابا لثقافة السرد والحكايات المفصولة عن الأرقام والعلوم والتواريخ وهي حياة شبه مشاعية وفصلية الطابع ومركزية في مرجعية القرار كانت حياة التحدي الأبرز لها هو الطبيعة ولهذا لم تألف العلم والإبداع حتى الأفكار الجديدة،ورغم ذلك استعانت بأدوات لقهر الطبيعة في صميمها علمي لكن بطرق بدائية، ولهذا تجد أن بعض العادات والطقوس رغم عدم منطقيتها إلا أنها مازالت متوارثة،مثل وضع الخرزات الزرقاء ردا للعين وغيرها.
ما يشير إليه زيغور يؤكد أن الحياة تتطور لكنها تحتاج إلى اشتباك مع وسائل الحضارة كالمدارس،والإعلام،والتقنية،والأفكار العلمية والمعرفية الجديدة،وتحتاج إلى جيل له قدرة على التواصل مع الجديد،لا يهابه ولا يخافه،ويعتبره جزءا من آليات المرحلة ذاتها،إلا أن ذلك يجابه بتحديات الممانعة والتحريض والرفض من قبل غير المتنورين معرفيا وعلميا.
في عام 1913 وفي أمريكا شكوا شابا أقنع بعض المستثمرين بدفع عشرين دولارا للمساهمة في اختراع يمكن الناس من إيصال أصواتهم عبر المحيطات، ما كان من ممثل الادعاء إلا السخرية والتهكم من هذا الشاب الهزيل والضعيف ووصفه بالمخادع والنصاب المحتال،والمبتز لأموال الناس.
كان الشاب «دي فورست» ينصت لهذه الاتهامات البليغة،بعد حث المحامي المحكمة على إيقاع العقوبة التي يستحقها لاستخفافه بعقول الناس بسبب ادعاءاته المضللة تلك،وبالفعل زج بزملاء فورست السجن فيما خضع فورست لنصائح مكتوبة جرى توقيعه عليها للتقيد بها.
الواضح في هذه القصة أن عقول الناس في تلك الفترة لم تكن قادرة على هضم مثل تلك الأفكار،لا بل اعتبرها البعض تعديا على الخالق،إلا أن أنبوبة فورست الزجاجية الألياف عدت من أعظم اختراعات القرن العشرين،والتي نقلت الموجات الصوتية والصور عبر الكيبلات البحرية،ولولاها لما كان اليوم هناك «نت» ولا «فيس بوك».
بيان حداد شاب عربي يؤكد أنه وفي نهاية الستينيات كان طالبا في إحدى المدارس النائية،وجاءت هيئة تعليمية أمريكية وزودت المدارس بأجهزة المايكروسكوب، وهذا الجهاز يقع ضمن دراسة العلوم، إلا أن عقل بيان حداد لم يرق إلى تصديق ما يقال،دفعه المعلم للنظر في الميكروسكوب لكنه لم ير شيئا وأطلق كلاما غير مفهوم كسخرية مما هو فيه قائلا بلهجة مدنية»كذيب عرب» ما إن وصل الكلام إلى معلمه حتى أشبعه ركلا وضربا فهرب بيان من المدرسة بسبب الميكروسكوب اللعين.
رفض بيان العودة للمدرسة وبسبب مسيحيته ذهب إلى مدرسة داخلية ووجد معلمين مختلفين في البيئة وآلية التدريس والمناهج فتغيرت نظرة بيان لهذه التقنية،وحاز إعجاب معلميه،الأمر الذي جعله يحصل على بعثة للدراسة الجامعية في أمريكا وليصبح من المبرزين في علم الأحياء الدقيقة.
يروي الشيخ حماد العرادي أنه أحضر «السايكل» من الكويت قبل استقلالها حيث كان الجنود البريطانيون وأغلبهم من الهنود يركبون السايكل بمهارة، أحضر 16 دراجة من هناك لكن - السايكل- هذا القادم الجديد جوبه بحملة من الاستغراب في الأوساط الاجتماعية وأطلق البعض عليه «حصين إبليس» لكن الآباء اليوم يشترون لأبنائهم «الدباب» وهو «سايكل» مطور،دون انتقادات.
هنا القضية تحتاج إلى وعي في أسباب الحضارة والتطور المجتمعي والإنساني، فإنسان اليوم يعيش في قرية عالمية،محاصر بكل أنواع وأشكال الاتصالات المختلفة،متوافره بين يديه،سهلة الاستخدام والاستعمال،لا يمكن محاربتها تحت أي مسمى كونها حقائق علمية جديدة وطريقا نحو المستقبل،لكن ما هو مطلوب ألا يستعجل بعضهم عملية التطوير إلى عملية احتراق داخلي،فالحضارات والمنتجات تهضم وتستوعب،والعلوم والمعارف كذلك،ويتحقق التغيير بتوسع هامش تلك المنتجات وحضورها اليومي.
ما نود قوله إن القطار يمضي،ولا يمكن لأحد أن يتخلف عن قطار المعرفة والعولمة والمنتجات الجديدة،وهذه المنتجات تسهم إسهاما كبيرا في التحليل وإجادة الرؤية وإعادة النظر في كثير من الرؤى في ضوء الوقائع الجديدة التي فرضت نفسها، وأضحت أيضا وسيلة إيضاح تفسيرية لكثير من الأفكار.
المشكلة أنه وعلى الرغم من وفرة الأدوات المعرفية،وإشاعة القراءة والكتابة ومصادر المعلومات الكثيرة،وإمكانية الرقي السلوكي والحضاري والإنساني، مازال بعضهم ليس لديه القابلية في التمدن واللجوء إلى العضلات المفتولة دون أحكام العقل،وما إن يستفز حتى يعود إلى العصبية ويعود إلى منطق فيه جاهلية متقاطع كليا وأسباب الحضارة ولغة الحوار ومنهج الاختلاف والتهذب والعقل..وهنا تكمن المأساة!!