أوكرانيا.. انقضاء المرحلة البرتقالية
المتابع للانتخابات الأوكرانية الأخيرة يصاب بشيء من الحزن ليس عليهم وإنما على بلادنا العربية التي يدعي بعضها الديمقراطية والانتخابات البرلمانية، فلا المعارضة راضية ولا الدول مقتنعة بأن الأمور تسير على نحو أفضل، ومن المحيط إلى الخليج مازالت هناك اتهامات بالتزوير في أي انتخابات، فمنظومتنا القيمية غير ديمقراطية وغير مؤسساتية، وثقافتنا كذلك، وعند أول امتحان ترانا نعود إلى المربعات الضيقة والمحدودة التي لا نعبر فيها عما نعلن عنه ليل نهار، فأوكرانيا كانت تعيش في ظلال الاتحاد السوفيتي والحزب الواحد ودولة الكي جي بي، كان بنطال الكابوي بالنسبة لهم حلما، وكان الشيوعيون العرب يحملون «البقج» من البالات الأوروبية هدايا لصبايا أوكرانيا، وعلبة سجائر المارلبورو تعد بالنسبة لهم قمة الليبرالية والانفتاح، لكن بالمحصلة يحتكم الأوكرانيون اليوم لصندوق الانتخابات، ونحن نحتكم للسلاح!!
كانت أوكرانيا من الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي بسرعة البرق وبمساعدة غربية، كان يحدوها الأمل للخلاص من الحكم المركزي الروسي والعيش في جنة النعيم الغربية، تحولت بسرعة إلى بلد رأسمالي ديمقراطي، باعت جميع أصولها الاقتصادية ووجد المتجارون فيها ثروة لا تصدق، حتى تجار الرقيق الأبيض، مرت أوكرانيا بظروف غاية في التعقيد الاقتصادي والسياسي لكنها تماسكت، ولم تتراجع، عضت على جروحها، وتقدمت إلى الأمام، وشهدت أخيرا عرسا ديمقراطيا، لكنه أحمر، وليس برتقاليا، كما كانت التوقعات!!
في جزيرة القرم الأوكرانية اعتقل الرئيس الروسي جورباتشوف صاحب نظرية البروسترويكا والغلاسنوست فترة الانقلاب المزعوم على السلطة في بداية التسعينيات، واتضح فيما بعد أن هذا الانقلاب يهدف إلى التخلص من بعض الرموز السياسية والعسكرية الروسية، وهكذا كان، فيما أخطأت بعض دولنا الحساب، وسارعت تأييدها للانقلابيين، والقرم أجمل مواقع العالم، وفي أوكرانيا جامعتان مشهورتان الأولى جامعة خاركوف، والأخرى كييف التي خرجت العلماء إلا العرب الذين أفنوا وقتهم في النضالات الأممية، وعادوا يبحثون عن أي عمل!!
يؤكد الصديق الدكتور عمار المطلق المتجنس في أوكرانيا وأستاذ القانون الدولي ورئيس مركز للدراسات ومستشار في الرئاسة الأوكرانية أن أوكرانيا بلد ينمو بسرعة الضوء، وأن الاستثمارات التي فيه لم تكن موجودة سابقا وأن الممارسة الديمقراطية رغم التدخلات الخارجية تمضي نحو الهدف المطلوب.
بالأمس كان الاتصال مع عمار مطولا، وكان الحديث حول تراجع جماعة الثورة البرتقالية، تراجع شعبية رئيسة الوزراء رغم منظرها الطفولي وتسريحتها العجيبة، يوليا تيموتشنكو صديقة الغرب وصديقة الراعي المالي جورج سوروس التي هزمت على يد المرشح فيكتورينكوفيتش صديق موسكو.
هذه الهزيمة ليست إلا إعرابا عن الأجواء الديمقراطية الحقيقية، ليس لديهم هيئة للمساءلة والعدالة، ليس لديهم هيئة لتشخيص مصلحة النظام، ليس لديهم شرط للترشح للانتخابات بأن تكون عضوا في أي حزب، تجربتهم مازالت في بدايتها لكنها تتقدم وتستقر وتتجذر، هناك فرق كبير بين النظم التي تتجذر لديها السياسات والممارسات والدول التي تجرب ممارسة السياسات حسب الحاجات والأهواء.
لكن كل دول الاتحاد السوفيتي المستقلة رغبت في تجريب النقيض للسيطرة الروسية، ذهبت إلى النقيض، إلى أمريكا والرأسمالية، عملت ما بوسعها أن تقطع صلتها بالماضي لكنها لم تستطع، لأن 45 في المائة من الأوكران هم روس أصلا، و35 مليون أوكراني يتبعون بطريركية موسكو، وقد جرب الأوكرانيون جنة الغرب، ووجدوا أن جحيم روسيا أفضل، فهي حسب صحافتهم تطعمهم الخبز، والغرب يطعمهم التسلية ويسلبهم الوطن.
رغم هذا كله، شرق وغرب، روسيا وأمريكا، إلا أن أوكرانيا طوت خلافاتها الداخلية بين القوى والأحزاب وأصحاب المصالح، وبات صندوق الانتخابات والمزاج الشعبي هو الأساس، لم يطالب رؤساء أوكرانيا التمديد لفترة حكمهم لم يغيروا دساتيرهم، ولا قوانين اللعبة الديمقراطية التي ارتضوا بها، لم يفتعلوا الأزمات، ولم يشطبوا قوائم المرشحين بحجج واهية كالانتساب للشيوعية مثلا.
أوكرانيا كانت شبه دولة فاشلة في البداية يسيطر عليها الفساد بمختلف أشكاله وأنواعه، مافيات وقطاع طرق، وحروب، وتصفيات داخلية، لكنها نضجت بسرعة، لم تكن أوكرانيا مؤهلة للديمقراطية لكنها تحاملت على نفسها وتجاسرت على الموت، وخطت طريقها إلى الأمام، وبات صندوق الانتخابات القول الفصل، والحاكم بين السلطة والمعارضة بين اتباع الغرب، واتباع موسكو وبين اتباع أوكرانيا ذاتها.
يؤكد الدكتور عمار المطلق أن أوكرانيا جنة غير مستثمرة بعد، يشيد بالتسامح السياسي والديني، ففيها نحو خمسة ملايين مسلم، وعمار تربطه علاقة وثيقة بالمفتي الأوكراني، لكنه، حسب عمار، مفتي يعي جيدا أنه في بلاد أغلبيتها مسيحية، وعلمانية، لكن المفتي له حضور استثنائي بين مختلف النخب والشرائح، ويضيف المطلق السنوات الخمس القادمة ستثبت أن أوكرانيا دولة بمواصفات مختلفة من صناعات تقنية عالية، ومنتجات متنوعة، وتعليم متميز، وحضور خارجي.
عمار عضو في لجنة العلاقات الخارجية الأوكرانية العربية والإسلامية، مقيم هناك منذ ما يقارب 15 عاما كان في البداية يعمل في مجال الاستثمار لكنه واصل تعليمه وتجنس الأوكرانية، وعمل في مرافق الدولة المختلفة دون تميز.
أوكرانيا منذ عام 1991 أصبحت دولة مختلفة حتى الأحزاب الأوكرانية احترمت اللعبة السياسية تحالفت، واختلفت لكنها لم تلجأ للفوضى، والتدمير، كما حدث بين فتح وحماس، وكما حدث بين نظام صدام حسين والمعارضة العراقية، وكما يحدث في إيران اليوم.
سواء كانت أوكرانيا برتقالية أو كانت قرنبيط أو مسخن فطير مشلتت .. أوكرانيا قطعت شوطا في الإدارة والسياسية، في ترتيب أوراقها الداخلية، ونحن بحاجة ماسة إلى تعلم الدرس الأوكراني، وعلى صعد مختلفة، بحاجة لتعلم كيف نختلف، وكيف نأتلف، وكيف نتعارض، بدلا من سياسات الإقصاء بأساليب ديمقراطية!!