رحلة على الخطوط السعودية ورحلة قطار في بريطانيا

ربما تبدو المقارنة غير منطقية بعض الشيء لأنها بين رحلة طائرة ورحلة قطار، ولكنها تلقي وميضا على عناصر متعددة مهمة في تقديم خدمات النقل وفوارقها الشاسعة بيننا وبين غيرنا، تساعد على معرفة النواقص التي تعتري تقديم خدمة ضرورية من صميم أعمال القطاع الخاص أو ما يفترض أنه تبع للقطاع الخاص، وفيها دلالة على ألا أمل يرجى فلنترك الأحلام جانبا ولنكن واقعيين وإن كان الواقع قاسي.
ركبت رحلة متوجهة من الرياض إلى لندن، وكانت البداية قبل الإقلاع بيوم. اتصال مؤدب من الخطوط السعودية يقول إن الطائرة تغير مسارها، فبدلا من الرياض - لندن مباشرة، ستتوقف الطائرة في جدة لأخذ مجموعة من الركاب الذين للتو انتهوا من أداء مناسك الحج، وعيب أن يتركوا في المطار منتظرين، فنأمل منكم أخذ العلم بذلك. سألت الموظف إن كان لدي خيار آخر، فرد علي إن الانتظار هو فقط لساعة وحيدة وسكت. سكت مثله، فالرعب من إلغاء الحجز أو التلفظ بأي كلمة يفهم منها عدم رغبتي في الرحلة قد يكلفني الكثير وأنا بالكاد حصلت على مقعد في الرحلة، كل هذا حتى لو تبعثرت حجوزاتي الداخلية في لندن، المهم أن أصل.
توجهت إلى مطار الملك خالد قبل الإقلاع بساعات، وأخذت بطاقة صعود الطائرة، وعليها طبعت البوابة رقم 26، كما هو أيضا معلن في الشاشات المتناثرة في جنبات المطار. ولكن قبيل الإقلاع، أعلن المذيع الداخلي أن البوابة هي 23. لا بأس فالمفاجآت أحيانا تزيد من تدفق الدماء وتبعث الحيوية في الأوردة والشرايين. أقلعت الطائرة في موعدها، وهبطت في جدة. ركب الركاب وتغير طاقم المضيفين. بعد ساعتين أقلعت - وليس ساعة كما وعدني الموظف. وصلنا لندن. وقبل أن تقف الطائرة، وهي تتمشى الهوينا في المدرج، تدحرج الركاب عن بكرة أبيهم في منظر «حراج» من كل صوب وحدب متسابقين للخروج، خشية أن تغير الطائرة وجهتها، متساقطين على ركاب الدرجة الأولى ودرجة الأفق الذين تسمروا في أماكنهم مشدوهين لمنظر حضاري من الطراز الأول لا يحدث إلا في باصات بومباي، ولكن سرعان ما فطنوا لقواعد اللعبة وشمروا عن أكواعهم وركبهم وركبوا خضم معركة «من يخرج أولا»، فغدت بوابة الطائرة كأنها إشارة مرور تقاطع طريق التخصصي مع العروبة، ترتيبها يعتمد على درجة الوقاحة وصفاقة الوجه. لا ألوم الخطوط السعودية على ذلك المشهد فهو مشهد متكرر في الأرض كما هو في السماء، ولكن اللوم يقع على المضيفين والمضيفات الذين استمتعوا بالفرجة وبكل بلادة على مسرحية «السبقة». مع الأسف، حجاج ومصاحفهم في أيديهم ومع هذا لم يأخذوا من الإسلام معنى الانضباط واحترام النظام، وكأن الإسلام فقط عبادات جسدية لا تصل إلى بواطن النفس لتهذبها.
بعد ذلك الفاصل الهزلي، خرجت من المطار إلى محطة القطار. وكانت رحلتي – المعاد جدولتها بسبب ركاب جدة - الساعة 12:30. قبلها بدقائق أعلن المذيع الداخلي عن اعتذار شبكة القطارات عن تأخر القطار لمدة ثماني دقائق. وكرر إعلانه أكثر من ثلاث مرات. وفي كل تكرار، أصرخ من داخل دواخلي: ثماني دقائق وتعتذر! آه لأمة متقعرة تضيع وقتها في الاعتذارات الهامشية التي لا تغني ولا تسمن من جوع. وماذا سيحدث لو لم يخبرونا! مشدوها، كنت أتساءل عن ذلك الإغراق في التفاصيل وكمية الهوس في الوقت، لدرجة تحديد دقائق ثمان، 12:38، أما كان يكفيهم أن يقولوا 12:40 وإن وصل القطار قبل ذلك أركبونا، وإلا فالدقيقتان لن تضرانا، فمنذا الذي سيأبه؟ ولكنه تقعر بريطاني بارد قاتل الله المتقعرين. سألت عن البوابة، فقيل لي لم تتحدد بعد. لم يفت أي منهم ولم يطبع على التذكرة أي رقم. قبل الرحلة بربع ساعة قلقت وذهبت اسأل مرة أخرى. أجابني الموظف بالإجابة نفسها. ثلاث دقائق ثم أعلن المذيع الداخلي عن البوابة. ركبنا القطار. كان الجميع يقفون بانتظام. انتقيت كرسيا وجلست عليه. جاء موظف وسألني عن تذكرتي ومضى في سبيله. الكل في كرسيه بانتظام، والخروج كان بهدوء، المقاعد الأولى أولا ثم من يليهم وهكذا. انتظام طبيعي وسلاسة في الركوب وفي الهبوط لا تشعر معها برغبة في التزاحم وفي تهيئة الأكواع أو صدها.
كمستهلك للخدمات المقدمة من الخطوط السعودية ألا يحق لي التساؤل – وقد بحت الأصوات- متى ستتغير؟ وإن لم تتغير ما خياراتي؟ لا يبدو أن هناك عصا سحرية تشفي علل الخطوط السعودية لتصبح مثل قطار إنجليزي، فالمحاولات والقرارات متتالية دون شفاء. ولهذا فظني أن العلاج هو فتح الأبواب على مصراعيها للخطوط الأجنبية دون قيود تجارية، ولتستمر الخطوط السعودية منشأة شبه حكومية يكون هدفها تنموي اجتماعي بشكل رئيس عبر توجيه رحلاتها للوجهات غير التجارية، ويستمر الدعم الحكومي لها كما كان، دون محاولة لتضيع الوقت في انتظار خصخصتها ووضعها في مصاف الخطوط الأجنبية المحترفة، فذلك أمر يبدو أنه بعيد المنال، فمنافسة قطار لا يبدو أنها ممكنة دع عنك أساطيل الطائرات وفنون الإدارة المتميزة. وليس لنا ذنب كمستهلكين في تحمل وعثاء السفر وكآبة المنظر المصاحب لرحلات خطوطنا الحبيبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي