مجلس الوزراء ومشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية

بالاطلاع على التقرير الدوري للأمم المتحدة لمستوى وأداء الدول في تنفيذها للحكومة الإلكترونية وآخره تقرير عام 2010، وعند استعراض قائمة الدول الـ 10 أو 20 أو 50 الأولى في العالم في هذا المجال، نلاحظ أن المملكة ليست من بينها. وبقدر ما تؤلمنا هذه الحقيقة المرة، إلا أننا لم نفاجأ بها.
حرصاً من حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ سلمه الله ـ على رفع وتحسين مستوى الخدمات الحكومية المقدمة للمواطن ورفع كفاءة التشغيل وحسن استخدام موارد الوطن، تم اعتماد عدد من المشاريع من أهمها مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية. وبعد سنوات (منذ عام 1424هـ) من بدء مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية وبمقارنة تجربة المملكة في التعاملات الإلكترونية الحكومية بدول أخرى (وبميزانيات أقل)، قد يكون من المجدي التوقف والتأمل وتقييم مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية من عدة جوانب: التخطيط الاستراتيجي، أهداف المشروع، تنظيم وتخطيط وإدارة والإشراف على المشروع، أطراف المشروع، تنفيذ المشروع، الخطة الزمنية لتنفيذ المشروع، إدارة المخاطر، تكاليف المشروع ومبدأ اقتصاديات الحجم، مخرجات المشروع، وضع المشروع، ودور الموارد البشرية وإجراءات العمل في المشروع.
وهناك أكثر من 400 جهة حكومية، ما بين وزارات ومؤسسات، والتي تقدم خدماتها لأكثر من 30 مليونا ما بين مواطن ومقيم وزائر، وأيضا لجهات حكومية أخرى وللقطاع الخاص. ومن الطبيعي أن تختلف سياسات وإجراءات العمل لكل خدمة مقدمة من كل جهة، إلا أنها تشترك في الأنظمة النمطية والتي تشتمل على أنظمة المحاسبة وشؤون الموظفين وغيرها. ويمكن تشبيه العلاقة التنظيمية التي تربط بين الجهات الحكومية والدولة بالإدارات الفرعية داخل شركة واحدة.
وبنظرة تحليلية، يتضح أن كل جهة حكومية تعتمد (وبشكل خاطئ) على افتراض عدم وجود أي علاقة بين الجهات الحكومية، وبالتالي فهي تقوم بشراء وتنفيذ الأنظمة المالية والإدارية بشكل منعزل، (جزر منعزلة). فعلى سبيل المثال، جميع أنظمة شؤون الموظفين التي يتم تطويرها داخل الجهات الحكومية تختلف في كيفية عمل النظام، وكذلك في البيانات المخزنة في النظام، على الرغم من أن المرجعية والمالك لهذه البيانات هي وزارة الخدمة المدنية. ويتوقع، من خلال ما تم رصده في ميزانيات القطاعات الحكومية لمثل هذه المشاريع، أن تكون التكاليف بالمليارات، وهذا غير مبرر، حيث يفترض وجود نظام واحد لجميع هذه الأنظمة تستفيد منه جميع القطاعات الحكومية. فالفوائد المتحققة والمتوقعة لا تبرر حجم الاستثمار في مثل هذه المشاريع (المتكررة). وبنظرة وطنية متأنية وصادقة وتحليلية، ومن خلال تحليل للتكلفة والمنفعة في تنفيذ مشاريع تقنية المعلومات، فالنتيجة الحتمية أن التكلفة تفوق بمراحل المنفعة من تنفيذ هذه المشاريع.
ومن خلال استقراء لما تم تنفيذه خلال السنوات الست الماضية في المشروع، يلاحظ التركيز على جانب التقنية على حساب الجوانب الأخرى (التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية وإجراءات العمل). فتركيب نظام معلوماتي وأجهزة مادية، من خادمات وملحقاتها، وتدريب المستخدمين على النظام، لا يمثل أكثر من 20 في المائة من منظومة حلول الأعمال، ولا يمكن أن يطور من أداء أي قطاع حكومي في ظل انعدام أو عدم العمل أولاً على تنفيذ المكونات أو العناصر الأخرى التي تمثل أكثر من 80 في المائة.
ويلاحظ، (وللأسف الكبير) عدم توظيف مبدأ اقتصاديات الحجم في مشروع التعاملات الإلكترونية، حيث إن عدداً من الجهات الحكومية تقوم بعقد اتفاقيات مع شركات تقنية مثل ''مايكروسوفت'' بشكل مستقل، بدلاً من العمل على اتفاقية شاملة لجميع قطاعات الدولة، والتي من خلالها يمكن تحقيق كل الخدمات التقنية المطلوبة للجهات الحكومية وبتكاليف أقل بكثير مما يتم دفعه حاليا،ً وبالتالي توفير مبالغ مالية كبيرة لخزانة الدولة. كما يمكن من خلال وضع خطة استراتيجية لتطوير وتدريب موظفي وموظفات الدولة، توفير مبالغ طائلة مع ضمان جودة ومخرجات أفضل. وكذلك يمكن القيام بالعمل نفسه فيما يخص تطوير الاتصالات والأنظمة المعلوماتية وأجهزة الحاسب (أكثر من ستة ملايين جهاز). بل يمكن لنا، بدلاً من الشراء المباشر، استثمار جزء من التكلفة لشراء خطوط إنتاج أو حتى مصانع أو شركات تقنية.
ومن اللافت للنظر تسابق عدد من الجهات الحكومية إلى شراء نظم إدارة موارد منشأة عالمية وبتكاليف عالية بغض النظر عن مدى توافق النظام وجاهزية البيئة وحجم العمل. فهل من المعقول أن تقوم جهة حكومية يعمل لديها أقل من 100 موظف وتتعامل مع أقل من عشر عمليات في اليوم بشراء نظام عالمي يتطلب ميزانية أعلى من ميزانية الجهة نفسها؟ وهذا قد تم بالفعل. وهل من المعقول قيام عدد من القطاعات الحكومية بشراء وتنفيذ النظام نفسه من مصدر واحد وبتنفيذ شركة واحدة دون الاستفادة من مبدأ اقتصاديات الحجم ودون وجود أي تنسيق بينها؟ وهل من المعقول أن تقوم كل جهة حكومية (أكثر من 400) بشراء وتنفيذ أنظمة إدارة موارد المنشأة (الميزانية والمحاسبة والمشتريات والموارد البشرية والمشاريع)، وتتكبد تكاليف مضاعفة على الرغم من أن هذه الأنظمة ليست مختلفة إنما نظام واحد، مما يوفر مبالغ كبيرة ويسهم في الحصول على معلومات عن أداء كل قطاع حكومي بشكل فوري؟ وهل من المعقول غياب أي دور لإدارة مشروع التعاملات الإلكترونية في التعامل مع هذه الملفات الرئيسة من حيث التخطيط الاستراتيجي والتنسيق والمتابعة وتفعيل مبدأ اقتصاديات الحجم. وعلى سبيل المثال فيما يخص نظام إدارة موارد المنشأة، هناك وزارات قامت، بالتعاقد مع مورد النظام نفسه شركة أوراكل والمنفذ نفسه شركة تاتا، وهي شركات أجنبية ويغلب على جميع موظفيها في المملكة العنصر غير السعودي. ويبدو أن التعميم الصادر من وزارة المالية للجهات الحكومية بخصوص استخدام نظام أوراكل من قبل وزارة المالية، فهم منه ضرورة استخدام النظام نفسه من قبل جميع الجهات الحكومية، وهذا يتعارض مع نظام المشتريات الحكومية فيما يخص منع الاحتكار.
وبالنظر إلى تكلفة شراء النظام (ومن ضمنها دفع رسوم رخص سنوية لأكثر من مليون مستخدم للنظام – تمثل أكثر من ستة مليارات ريال لمدة ثلاث سنوات على أقل تقدير)، وتكاليف التنفيذ لهذه القطاعات وتكاليف التدريب (بمئات الملايين)، يمكن استثمار جزء يسير من هذه الأموال لتطوير أنظمة خاصة بالمملكة من خلال شراكات استراتيجية مع شركات عالمية، بل ويمكن شراء شركات تقنية عالمية (مثل أوراكل وتاتا)، مما يسهم في تنفيذ جميع أنظمة الدولة في جميع قطاعات الدولة بتكلفة محدودة، وكذلك تسهم في الاقتصاد المعرفي وتوفير وظائف لأبناء الوطن.
وبشكل عام فإن مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية لم يحقق الأهداف المرجوة منه على الرغم من حجم الاستثمار في المشروع والمقدر بمليارات الريالات، ومضي أكثر من ست سنوات. كما أنه لم بسبق أن تم تقييم المشروع من جهة متخصصة مستقلة، إنما يتم الاكتفاء بالتقارير الصادرة من إدارة المشروع الحالية، والتي يغلب عليها التعتيم والتعميم وعدم الوضوح والضبابية. وحول هذا، فقد صرح وزير الاتصالات وتقنية المعلومات في عام 2007 بأن ''مشروع الحكومة الإلكترونية شارف على الانتهاء بعد إنجاز 80 في المائة، كما لا يوجد تقارير حديثة عن أداء المشروع وآخرها كان في 2007 (منذ ثلاث سنوات)، وهذا يعد ضعفاً في تطبيق مبادئ وأساسيات إدارة المشاريع. وهناك حالياً لجنة عليا إشرافية (وتنفيذية في الوقت نفسه) لمشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية. وقد يعزى تركيز إدارة المشروع على جانب التقنية على حساب الجوانب الأساسية (التخطيط الاستراتيجي وتطوير الموارد البشرية وإجراءات العمل)، إلى جانب أنه الأسهل في التنفيذ، إلى أن خلفية أعضاء فريق المشروع تقنية بحتة، وهذا جعلهم يركزون فقط على الجانب التقني، مما أفقد المشروع التركيز على الأهداف الأساسية للمشروع. كما يلاحظ عدم وجود استراتيجية واضحة للمشروع، وهذا يتضح من خلال عدم تغير طريقة ومنهجية اختيار وتنفيذ الأنظمة في القطاعات الحكومية قبل وبعد بدء مشروع الحكومة الإلكترونية.
وبنظرة متأنية لكيفية تنظيم وإدارة مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية، يتضح عدم تفعيل دور راعي ومالك المشروع، مع عدم وجود جهة إشرافية مستقلة تقوم بالتأكد من جودة وأداء المشروع. إضافة إلى ذلك، لا يوجد استراتيجية واضحة للمشروع، مع عدم الاستفادة من اقتصاديات الحجم مما أدى إلى تكبد الدولة تكاليف مالية عالية جداً في الوقت الحالي ولسنوات مقبلة، كان بالإمكان تلافيها. ولإعادة تنظيم المشروع، ينبغي نقل المشروع لمجلس الوزراء مع القيام بتقييم شامل للمشروع في جميع جوانبه من قبل جهة مستقلة، وهذا ليس فقط يعكس التنظيم المنطقي والعملي لإدارة أي مشروع، ولكن أيضاً يعكس الممارسات العالمية في طريقة ومنهجية إدارة مشاريع التعاملات الإلكترونية الحكومية في الدول المتقدمة في هذا المجال مثل فنلندا والنرويج وسنغافورة.

وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي