Author

وديعة الأسهم تظهر خطأ التكيُّف الشرعي للوديعة البنكية

|
أعلن بنك سعودي عن افتتاح وديعة للأسهم ''النقية''. وفيها يضمن البنك للمودع الذي أودع أسهما لشركة ما بأن يستعيد أسهمه نفسها وعليها 5 في المائة زيادة. أي أن من أودع 100 سهم لشركة ''الأرض المحدودة'' لمدة عام سيسترجعها 105 أسهم للشركة نفسها. ومصلحة البنك في ذلك أن البنك سيضارب بالأسهم وقد يسيلها ويستثمر قيمتها في مشاريع ''إسلامية'' ثم سيعيد هذه الأسهم لمودعها مع 5 في المائة زيادة في آخر العام. فما التكييف الشرعي لهذه الوديعة البنكية من حيث المعاملة. 1. أهي قرض لأنها تحمل معنى القرض كما قاله معظمهم عن الوديعة البنكية لأجل (ولا أدري أي معنى للقرض تحمله حقيقة الوديعة البنكية). فلو كان قولهم مؤصلا تأصيلا صحيحا منضبطا للزم منه أن وديعة الأسهم هذه هي أيضا قرض ربوي أجمعت الأمة على تحريمه. 2. أم أن وديعة الأسهم هذه كما قال بعضهم - وهم قلة - إنها وديعة بالمعنى الشرعي للوديعة. وهذا غير منضبط لأن فيها زيادة مشروطة، ولأن الوديعة فيها معنى الإحسان والوديعة البنكية ليس فيها هذا المعنى، وفيها عدم إرجاع عين الأسهم كما يقولون - وإن كان هذا غير مُسلم به، فالريال رقم والسهم رقم يعاد مثله تماما. 3. أم أنها عملية تبادلية يًتبادل فيها المال بجنسه أي المال نفسه بأجل وزيادة فهي إذن تحت باب البيوع. وهذا الأخير هو التخريج المنضبط الذي لا إشكال فيه. فإذا خلصنا بهذا إلى التكييف الصحيح للوديعة سواء أكانت نقدا أو أسهما أو أي سلعة بأنها بيع مال بمثله مؤجلا بزيادة، نستطيع حينئذ وبعد أن خرجنا من تكييفها الخاطئ كقرض أن نحصر حرمة هذه المعاملة أو جوازها في كونها هل هي بيع باطل - كبيع الغرر وبيع ما لا تملك - أم أنه بيع ربوي.  فالجمهور لا يقول إن هذا بيع باطل من حيث الكيفية ولكنه قد يكون بيعا ربويا تبعا للمال المودع إذا كان ربويا وذلك بالإجماع. فبما أن الأسهم ليست أموالا ربوية بل عروض تجارة فوديعة الأسهم البنكية جائزة، وهذا مقتضى القياس على فتاوى علمائنا في الديار السعودية الذين أجازوا بيع متر القماش بجنسه متفاضلا لأجل.  وقد يعترض معترض كالشيخ علي حمدان - في رسالة بريدية أرسلها لي - بأن اتحاد الجنس ولو لم يكن ربويا لهو كاف في وقوع ربا النسيئة، فعليه فإن بيع الشيء بجنسه نسيئة داخل ضمن ربا البيوع. وهو قول نقله بعضهم -كالشيخ الدكتور عمر المترك - رحمه الله - عن الأحناف وبعض الحنابلة ونحوه عند المالكية. فيجاب على ذلك بأن هذا القول ضعيف إلى درجة أن علماءنا في الديار السعودية وفي المجمعات الفقهية - على حسب اطلاعي - لم يذكروه حتى في أبحاثهم، ونقاشاتهم والفتوى عندهم بخلاف ذلك. ولو كان لهذا القول حظ من الصحة لكان من الأسهل على العلماء تكييف الوديعة البنكية - بدلا من إدخالها تحت معنى القرض تعسفا - بأنها بيع شيء بجنسه لأجل. وهو داخل في ربا النسيئة سواء أكانت هناك زيادة أم لم تكن بناء على ما أورده الشيخ المترك - رحمه الله - ومن هنا يظهر سبب هجران هذا القول من عامة علماء المسلمين. فاعتماد هذا القول يوسع باب الربا في الأموال كلها، فما من مال إلا وله جنس، وبذلك لا تكاد معظم المعاملات تخلو من الربا. فضلا على أن هذا القول لا يخدم القول بربوية التمويلات البنكية - الذي كان هدفا يجب الوصول إليه في معظم الاطروحات - فيمكن بيع مليون ريال بمليون دولار لأجل، فهما جنسان مختلفان. فمن أجل ذلك ومن أجل مخالفته لفعل الرسول وعمل الأمة في السلف والخلف هُجر هذا القول الذي نقله الشيخ المترك - رحمه الله - ولم يتطرق إليه علماؤنا وغيرهم - حسب علمي - لا شرحا في بحوثهم ولا تطبيقا في فتاواهم. التأصيل الشرعي الشبه مُجمع عليه في القرض أنه عقد إرفاق أو عقد معاوضة غير محضة. وهذا قد صرح به الكثير من علمائنا ومنهم الشيخ ابن عثيمين وضبطه بالنية. وممن أشار إلى نحو ذلك الإجماع شيخنا وأستاذنا الفاضل الدكتور عبد الله العمراني في كتابه القيم الجامع ''المنفعة في القرض''. فمن أين أتى القول بأن الوديعة البنكية تحمل معنى القرض؟ فكيف تكون الوديعة البنكية قرضا وفي ذلك مخالفة صريحة للتأصيل الشرعي لمفهوم القرض شبه المجمع عليه الذي يدور حول الإرفاق، والإرفاق غير مقصود لا من البنك ولا من المودع في حال الوديعة. هذا التناقض استشهد له من أورده - وهم الغالبية - بلفظ الزبير بن عوام الذي نقله عنه ابنه عبد الله - رضي الله عنهم أجمعين - في البخاري ''إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة''. فتجد العالم والباحث المؤصل يؤصل القرض وينقل الإجماع بأنه عقد إرفاق أو معاوضة غير محضة - وهو تأصيل صحيح تشهد له الفطرة الإنسانية التي هي الدين القيم - ثم يعود العالم أو الباحث فيناقض نفسه في الوديعة البنكية مستشهدا بقول الزبير. فسبحان الله، وصدق الله ''ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا''. ومن المشهور في الأصول - وإن كان فيه خلاف معتبر عقلا نقله الشوكاني على ما أذكر- أنه إذا تعارض قول الرسول مع فعله عليه الصلاة والسلام قُدم قوله عليه الصلاة والسلام على فعله فما بالك إذا خالف ظاهر لفظ صحابي معنى شرعيا متفقا عليه في الفطرة وفي الشرع، والفطرة هي الشرع على كل حال. لذا فتخريج لفظ الزبير على وصفه ودائع الناس عنده بأنها سلف هي من أجل تسهيل الصورة التبادلية للمودعين في زمانه وليس المقصود المعنى الشرعي للقرض. وقد يشهد لذلك استخدامه للفظ السلف لا القرض والسلف يطلق على السلم. فكما أن مفهوم السلم لم يطرأ على العلماء لأن الودائع كانت أموالا ربوية فكذا كان ينبغي ألا يصرف لفظ السلف إلى معنى القرض، في حال الزبير لأن ليس فيه إرفاق من المودع. والذي أراده الزبير هو إخبارهم بأنه لن يرد عينها والدراهم والدنانير آنذاك تختلف أوزانها وقيمها نسبة إلى من سكها ومتى سكها. والوديعة يعاد عينها وهي غير مضمونة بعدم تفريط والقرض يعاد مثله وهو مضمون. فشرط الزبير له وجاهته لاختلاف الدنانير والدراهم فهي لم تكن مجرد أرقام كاليوم ولكي تحفظ للناس حقوقهم في حالة وفاته وضياع هذه الودائع. وهو أيضا ظاهر من مناسبة السياق، فظاهر سياق قول عبد الله بن الزبير هو إرادة نفي الاعتقاد بأن أباه الزبير كان بحاجة إلى أموال الناس بل إنه كان - رضي الله عنه - هو المتفضل على الناس وذلك هو سبب إشارة ابنه عبد الله - رضي الله عنهما - في الحديث نافيا أن يكون على أبيه دين بل شرحه بقوله ''إنما كان دينه''. فكيف أصبح المقترض مُحسنا ومترفقا بالمقرض؟ لم يجب علينا أن نقلب فطرتنا وعقولنا لكي نقول إن الوديعة البنكية فيها معنى القرض! وعلى كل حال فمن استمسك بلفظ الزبير فصرفه إلى المعنى الشرعي للقرض فيلزمه أولا نقض الإجماع الشرعي والفطري بأن القرض عقد إرفاق وإحسان من المقرض لا من المقترض، لا أن يجمع بين المتناقضين فيقول في سياق واحد ''والقرض عقد إرفاق والوديعة البنكية قرض'' كما يفعله البعض. ولزمه ثانيا نقض القاعدة الأصولية الشهيرة بأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، ففي حالة الزبير كانت المنفعة الدنيوية حاصلة للطرفين فهو عقد معاوضة محضة كما لو أقرض رجل ماله لأمين من أجل حفظه. ولأن السلف والخلف نقلوا استقراض الرسول بزيادة وشاهده قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عثيمين وغيرهما ''استقرض رسول الله الجمل بالجملين'' وهم لا يقصدون القرض بمعناه الشرعي. ولزمه ثالثا أن يحرم جميع التمويلات ''الإسلامية'' لأنه يقال اقترضت من البنك وهو قد تمول تمويلا ''إسلاميا'' فعلى ظاهر اللفظ فكل قروض البنوك ''الإسلامية'' ربا مجمع عليه لأنه قرض جر منفعة للبنك. ولزمه أخيرا أن يُعرف لنا القرض وموضوعه أو علته التي تفرق القرض من البيع. وعلى كل وإتماما لهذا المقال، فإن هناك - كالشيخ الدكتور عبد الله بن مترك رحمه الله - من نقل شواذ التعريفات للقرض من بطون الكتب فقال إن القرض شرعا هو دفع مال مثلي ليرد مثله. وهذا القول على شذوذه بين أقوال السلف والخلف فإنه يُرد عليه بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام باستقراض الجمل بالجملين والذي كان عماد الفتوى لكبار العلماء عندنا الذين أجازوا بيع القماش بمثله متفاضلا لأجل وأجازوا بيع العروض بمثلها بفضل ونسئ. وعلى سبيل التمثيل قال الشيخ ابن عثيمين ''من قال: إنها عروض فإنه لا يجري فيها الربا، لا ربا الفضل، ولا ربا النسيئة، كما أن العروض كتبديل الثوب بالثوبين، أو بالثلاثة، وتبديل البعير بالبعيرين لا بأس به، سواء تعجل القبض أو تأجل''. وختاما قد يقال وما الفائدة من كثرة الكلام والنتيجة واحدة فسواء كانت الوديعة البنكية بالفلوس قرضا أو بيعا ربويا، فالنتيجة واحدة وهي أنها ربا. فنقول لا، فالخلط بين القرض والبيع قد شكل حاجزا وغشاوة على أفهام الناس، عالمهم ومتعلمهم وعامتهم في فهم مسألة الفلوس المعاصرة. وهذا الخلط هو أساس تحير الناس في فهم دينهم. فنقول له تارة إن الوديعة قرض وكل قرض جر منفعة فهو حرام ثم نقول له يجوز وديعة الأسهم ويجوز قروض البنوك ''الإسلامية'' فكيف أصبح القرض الذي جر منفعة للبنك جائزا الآن. ونقول له اقلب فطرتك وسلم عقلك فاجعل تمول الغني ووديعة البنك إرفاقا بهم واجعل استغلال الضعيف في القروض الاستهلاكية ترفقا به طالما كانت ''إسلامية''. إن فهم معنى القرض الشرعي هو مفتاح رؤية المعاملات المعاصرة بمنظورها الشرعي الصحيح. فتلبيس القرض بالبيع قد أدى دورا لا يستهان به في خلط المسائل الشرعية المتعلقة بالربا والمعاملات المعاصرة.
إنشرها