الإنجازات العلمية تتحقق بالإصرار والجرأة.. أمريكا نموذجا (1 من 2)

أقسم خبراء أن الطائرات لن تطير أبداً، والهاتف ما هو إلا آخر خدعة أمريكية كما أكدتها صحيفة «التايمز» اللندنية لقرائها في القرن الماضي، واستمرار الجدل حول حقيقة وصول أمريكا سطح القمر... إلخ من المحاولات والتساؤلات التي هي ربما كان هدفها كبح جماح أمريكا العلمية والبحثية المتنامية والتأثير المعنوي والنفسي على العلماء من خلال التشكيك بأبحاث أمريكا العلمية، لكن: هل أثّرت هذه المحاولات في تطور أمريكا علميا؟ ولماذا؟ وما النتيجة من هذا الإصرار العلمي؟ وما الشيء المؤكد؟!
إن تاريخ الإبداع العلمي والابتكار في أمريكا، ابتداءً من تجارب بنجامين فرانكلين في مجال الكهرباء ومروراً باختراعات الكسندر غرهام بل، واكتشافات توماس أديسون، وطيران الأخوين رايت، وعصر الذرة، وغزو الفضاء بالغ الأهمية وصولاً إلى ثورة الاتصالات الرقمية، وعصر الإنترنت، واكتشاف الجينوم البشري، وتقنية النانو ... إلخ، ملحمة علمية زاخرة تستحق التمعن بها والاستفادة منها، فدعونا نلقي الأضواء على بعض أسباب (مفاتيح) هذا النجاح.
تعطي أمريكا دعم أبحاث المجالات العسكرية الأولوية لضمان تفوقها عسكريا، لذا فقد تفوقت نوويا وبيولوجيا وتقنيا... إلخ، فعند انتفاء الحاجة لنتائج تلك الأبحاث في الجانب العسكري يوجّه إلى المجالات المدنية لضمان تفوقها الاقتصادي العالمي. والأمثلة المؤيدة لذلك كثيرة، ففي المجال النووي بُحثت وأُنتجت واُستخدمت القنبلة النووية، وهي جرأة علمية وربما غير أخلاقية في نظر البعض، إلا أن النتيجة النهائية ضمنت تفوق أمريكا العسكري وجعلتها من الدول العظمى منذ أكثر من نصف قرن. بعد ذلك تم استخدم الإشعاع النووي (الذري) في المجالات السلمية لتضمن تفوقها الاقتصادي، فأصبح أحد الأمور التي لاغني عنها في الوقت الحاضر، لاستخدامها في الأنشطة السلمية المفيدة للبشرية كالطب، والصناعة، وخلافه، بل زادت الحاجة إليه مع نمو المجتمعات وتطورها نتيجة للاستخدامات التطبيقية للإشعاع الذري، فأخذت أجهزة الإشعاع الذري تنتشر وتحتل مكانا بارزا في معظم الجامعات ومراكز البحث العلمي والمستشفيات.
مثال آخر: الربط الإلكتروني بين الحاسبات الآلية للمؤسسات الأمريكية، المهمة موجود منذ فترة طويلة (الستينيات من القرن الماضي) لنقل البيانات المهمة عند حدوث هجوم عسكري مفاجئ من قبل القطب العالمي الآخر آنذاك، الاتحاد السوفياتي سابقا، في حقبة ما تُسمّى بالحرب الباردة. فتمويل أبحاث كبار العلماء بهدف تطوير تقنية تسمى أربانت ARPANET من قبل البنتاجون، لم تتأثر وتوقف دعم البحث العلمي بسبب بعض الأحداث الدرامية خلال فترة الستينيات، كحرب الفيتنام والحركات الحقوقية. فعند انتفاء الحاجة من تلك التقنية واستشعارهم بأهميتها في الجانب الاقتصادي، واستشرافها بأهمية الاقتصاد المعرفي، ظهرت فكرة ربط الحاسبات الشخصية مع بعضها بشبكات لتضمن تفوقها الاقتصادي، وهي التقنية التي أصبحت فيما بعد تعرف بالإنترنت التي غيّرت وجه العالم، وهذا ما نلمسه في وقتنا الحاضر، وبذلك ضمنت هيمنتها الاقتصادية في المجال المعرفي أيضاً.
لا شك أن أمريكا سلكت الطريق الأصعب، كما أراه، وهو التحول لاقتصاد المعرفة، مستفيدة من نتائج الأبحاث المتقدمة التي انتفت الحاجة لها في الجانب العسكري، لكون المعرفة غير ملموسة وغير معروفة الكمية والقيمة، خلافا للاقتصاد المبنى على الموارد الملموسة، كالنفط، والزراعة، والصناعة التقليدية ... إلخ. ونتيجة لهذا الإصرار، والجرأة، وقراءة المستقبل بصورة صحيحة أصبحت صناعة المعرفة، في وقتنا الحاضر، سلعة ذات مصدر مالي مستقل تُسوّق في شتى بقاع المعمورة، وغني عن القول أن أمريكا تستحوذ على النصيب الأكبر من دخلها عالميا.
أيضا، أمريكا لم توقف أبحاثها ودفعها للمبالغ الباهظة لاكتشاف الفضاء والسيطرة عليه بعد انفجار مكوك الفضاء « تشالنجر»، وتحطم مكوك الفضاء «كولومبيا»، وفشل رحلات استكشاف المريخ ... إلخ، إنها الجرأة العلمية والإصرار، على الرغم من الفشل والتكاليف الباهظة له. فميزانية NASA لهذا العام 2010م تقدر بـ 11.36 مليار دولار من ميزانية الحكومة الفيدرالية المخصصة لدعم الأبحاث والتطوير.
فالفشل في ثقافة أمريكا العلمية هي تجارب، فمحاولات توماس أديسون الكثيرة، العالم الأمريكي، مخترع المصباح الكهربائي، قبل أن يحصل على هذا الاختراع المذهل الذي خدم البشرية لم يسمها فاشلة، وإنما اسّماها تجارب لم تنجح، وكان أديسون قد سجل 1093 براءة اختراع باسمه، إذ يعد أحد المخترعين الأمريكيين الأكثر إنتاجاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي