عندما يكون المواطن سفيراً لبلاده «1»
أهداني صديقي فهد المقيرن كتابا قيما عن دور المملكة في مكافحة الإرهاب، ألفه سفيرنا في لبنان علي سعيد عسيري. الكتاب صدر باللغة الإنجليزية ونشرته دار أكسفورد للطباعة، وهي دار نشر إنجليزية مرموقة. سأتحدث عن هذا الكتاب في مقالة مقبلة، لكن دعوني أحدثكم أولا عن فهد المقيرن فهو شخصية استثنائية.
هو الابن الأكبر لمؤسس غرفة تجارة الرياض الشيخ عبد العزيز المقيرن - يرحمه الله - وهو من رجال الأعمال المثقفين، وفي الوقت ذاته هو نموذج للمواطن الذي يمكن أن يكون - دون مبالغة - سفيرا (بلا سفارة) لأهله وبلده أينما حضر أو حل. إنه عدة رجال في رجل، فهو أشبه بمؤسسة وطنية متحركة. إنه طراز فريد من الرجال الذين يتصفون بصادق العزم، وبثاقب الفكر، وبحسن المنطق. وله علاقات متشعبة محليا وإقليميا ودوليا، ليس تمتعا أو تفاخرا، وإنما إيمانا منه بحق بلده عليه،، وإحساسا بمسؤولية يرى أن على كل فرد تحملها قدر المستطاع . حباه المولى بشخصية ''كاريزمية '' جذابة يتأثر ويعجب بها كل من يقابله أو يتحدث معه. قوام هذه الشخصية الصدق والعزم، فهو شخص واقعي (براغماتي)، حكيم، مستقل الرأي، غيور على بلده وقيمها وثقافتها، صاحب مبادرات، وهو شديد التواضع، جم الخلق، وهذا هو سمة الكبار واثق الخطى. كلما تحدثت إلى هذا الرجل أو شهدت أو علمت عن بعض مواقفه ازددت تقديرا له، وهتف قلبي احتفاء به. منذ فترة وأنا أمني النفس بالكتابة عن شخصيته، واستأذنته مرات في ذلك، فكان يثنينى ويرجوني صرف النظر عن هذا بلطفه وأدبه المعهود. لكنني اليوم حزمت أمري ورأيت أن أكتب عنه ليتعرف الناس عن نماذج جميلة تعيش بيننا، ويوقنوا أن الدنيا ما زالت بخير، حتى وإن كنا نعيش وسط إحباطات كثيرة. وأن علينا أن نفعل لأنفسنا ولبلادنا ما يسعنا، كل بحسب قدرته وجهده، أما النتائج فنتركها للزمن. بإمكاني أن أسرد عشرات القصص والمواقف التي تبين معدن هذا الرجل، وأن أستشهد بعشرات الشخصيات العامة التي حضرت هذه المواقف، لكن المقام لا يسع وسأكتفي ببعض ما أعرف.
وكان صديقنا المشترك الدكتور زيد الحسين - نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان حاليا وعضو مجلس الشورى سابقا – قد اكتشف خصال فهد المقيرن عندما جاء الدكتور زيد إلى جدة مرافقا وفداً زائراً من البرلمان الأوروبي عام 2006م. فاستضافهم أخي فهد ورتب لهم برنامجا حافلا ترك أثرا متميزا لديهم. ولاحظ أخي فهد أن رئيسة الوفد للِي غروبر جاءت محملة بانطباعات وصور نمطية مسبقة خاطئة أو سلبية عن مجتمعنا، فاستطاع بعقليته الفذة وشخصية المؤثرة ومنطقه المقنع وقدرته الرائعة على ترتيب أفكاره وحسن صياغتها وعرضها أن يغير تلك المفاهيم. مما حدا بالشيخ صالح بن حميد إلى دعوة الأخ فهد لملاقاته في الرياض لشكره على ما قام به. والمسألة ليست إقامة حفلات وتنسيق بروتوكولات والاهتمام بشكليات، إنها شيء أكبر من ذلك بكثير! إنها الاستعداد الفكري المنظم لمناقشة الآخرين والحوار معهم بمنهج ومنطق سليم، من خلال فهم العقليات، ودراسة الشخصيات، والتزود بالمعلومات (وهذا هو بالضبط ما يفعله فهد المقيرن). أما سنام ذلك فهو النجاح في التأثير فيهم وتصحيح مفاهيمهم وانطباعاتهم الخاطئة! هكذا عرفت فهد المقيرن وهكذا عهده كل من عرفه.
في شباط ( فبراير) الماضي نشرت صحيفة ''نيويورك بوست'' رسما كاريكاتوريا شبهت فيه الرئيس أوباما بالشمبانزي، فهبت هيئات ومنظمات المجتمع المدني في أمريكا تحتج وتنتقد في معارضة قوية وواسعة لهذا التصرف العنصري البغيض، الأمر الذي اضطر الصحيفة لنشر اعتذار كبير وصريح. وعندما قرأ فهد المقيرن عن هذا الحدث لم يكتف بالقراءة والتأسف! وإنما نهض إلى جهاز حاسوبه وكتب فقرة بليغة باللغة الإنجليزية بعثها لجميع أصدقائه من رجال المال والأعمال والفكر وأساتذة الجامعات والصحافيين في أنحاء العالم، يقول لهم فيها: هناك احتجاج صائب ومبرر وصرخة مدوية حول الرسم الكاريكاتوري الذي شبه الرئيس أوباما بالشمبانزي، ما حدا بصحيفة ''نيويورك بوست'' للاعتذار تحت وطأة هذه الضغوط. ولكن عندما اعترض المسلمون على الرسوم الدنماركية المسيئة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ردت وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية وبعض المسؤولين الحكوميين في الغرب بأن المسلمين قد اعتدوا باحتجاجهم هذا على ما يزعم الغرب أنه أكثر قيمهم قداسة: قيمة حرية التعبير!! بيد أن هذا – كما ترون - كان أنصع وأكثر صور النفاق وضوحا في تعامل الغرب مع قضايا المسلمين!
وكان من الردود التي تلقاها فهد المقيرن، رسالة من البروفيسور لورنس بنتاك أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية في القاهرة سابقا، وعميد كلية الإعلام في جامعة واشنطن حاليا، يستأذن فيها فهد المقيرن باستعمال فقرته البليغة ليضمها للفصل المخصص لأزمة الرسوم الدنماركية في كتاب يقوم بإعداده حاليا عن الإعلام العربي!
يعلمنا فهد المقيرن وأمثاله أن السفير ليس هو الموظف الرسمي في وزارات الخارجية فقط، وإنما كل مواطن في أي بلد يستطيع أن يكون سفيرا مؤثرا ورائعا لبلاده إن أراد. والمخلصون من أصحاب هذه الجهود يؤدون أدوارهم عن قناعات ويمضون في سبيلهم تاركين جني ثمراتها للزمن. في المقال المقبل أحكي عن مواقف لفهد المقيرن مع جيمي كارتر، وتوني بلير، وفرانسيس فاكوياما، وديريك بلمببلي سفير بريطانيا السابق في الرياض، وموقف فهد من صور الكنيسة المزينة زعما بجماجم المسلمين، وجهوده مع مديري الفنادق التي ينزل بها حول العالم. ألم أقل إنه شخصية استثنائية؟!