«الفريدمانية والجهادية» وجهان لعملة واحدة
أوضحنا في مقالين سابقين الدور المؤثر للإعلام في الترويج لأفكار وأيديولوجيات وممارسات دينية أو غيرها. وأوضحنا كذلك كيف أن الناس تأخذ كثيرا من الأمور التي يأتي بها الإعلام كتحصيل حاصل دون تمحيص حتى لو كانت خزعبلات كما حدث في مصر بخصوص تجلي وظهور العذراء مريم.
بيد أننا سنجافي الحقيقة إن قلنا إن نقل الخزعبلات بطريقة تظهرها، وكأنها أمور «منزّلة» خاصية إعلامية مصرية. هذه ظاهرة عامة أو بالأحرى «عولمية» قصب السبق فيها كسبه الإعلام الأمريكي منذ زمان بعيد ولا يبزه في ذلك إعلام أي بلد آخر.
ورائد الخزعبلات الإعلامية الأمريكية، في رأيي المتواضع، هو توماس فريدمان، صاحب العمود الشهير في جريدة «نيويورك تايمز» الذائعة الصيت. وتبرز خزعبلاته أكثر ما تبرز عند تناوله أمورا تخص العروبة والإسلام. كتبت عنه في مقال سابق وأعود إليه كي أمنح قرائي الكرام نبذة عما سأقوله عنه في المؤتمر الدولي عن الإعلام والإسلام المزمع عقده في جامعة كولورادو الأمريكية من 6-10 من الشهر الحالي. سيحضر هذا المؤتمر المهم أكثر من 200 مختص في الشؤون الإسلامية في العالم معظمهم من الولايات المتحدة الأمريكية ويتوقع حضور إعلامي وجماهيري كبير.
في آخر مقال له طالب فريدمان الرئيس الأمريكي أوباما بشن حرب إلكترونية رقمية لا هوادة فيها على المواقع «الجهادية» الإسلامية على الأرض وفي السماء، ودعاه إلى الكف عن المطالبة من دول حليفة لمساعدته في حربه على الجهاد الإسلامي، قائلا إن أمر قتل وذبح «الجهاديين» ومفاهيمهم يجب أن يتم بأيد عربية إسلامية صرفة. ويقول إن العرب والمسلمين مرتاحون لدور «المفعول به»، بمعنى آخر أن تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بمحاربة «الجهاديين» المسلمين من أجلهم. هذا وضع يجب تغييره، حسب فريدمان، وأنه آن الأوان أن يقوم العرب والمسلمون بدور «الفاعل»، أي أن يشمّروا عن سواعدهم لمحاربة «الجهاديين» بأنفسهم.
أكتفي بهذا القدر من مقال فريدمان، المقال مترجم إلى العربية ونقلته صحف ومواقع إلكترونية كثيرة، وهذه ظاهرة صحية بالمناسبة، على العربي والمسلم أن يقرأ ويطلّع على ما يكتبه الآخرون عنه. وآمل أن يتمكن القراء الأعزاء من قراءة مقال فريدمان بالعربية كنت أتمنى لو وضعت الرابط لهم إذا سمحت سياسة التحرير في الجريدة بذلك.
كذّاب من يقول إن الحروب التي يشنها الغرب في أصقاع المسلمين من فلسطين إلى العراق إلى أفغانستان هي من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية وما غيرها من العبارات الطنّانة. شئنا أم أبينا، ومهما كتب فريدمان من مقالات عكس ذلك، فإن الصراع الحالي ذو صبغة دينية. إنها حروب دينية مهما حاول مثيروها تزويقها بألفاظ جميلة. ولكن في كل هذه الصراعات يخرج الإسلام والمسلمون ضحايا ما يُروّج من السلبيات في الإعلام، إننا اليوم في صراع ديني وحضاري وثقافي لم تشهد البشرية له مثيلا منذ الحروب الصليبية في القرون الوسطى.
ولكن الضربات السيئة والسلبية، ولا سيما الإعلامية منها لا تقع إلا على رؤوس العرب والمسلمين. فعنوان مقال فريدمان الأخير هو: «دبليو دبليو دبليو. جهاد. كوم». أما بخصوص العبارات الخطابية السلبية التي تطلق على العرب والمسلمين والتي أسهم فريدمان في صياغة بعضها فحدّث ولا حرج: «الجهاديون، الإسلاميون، المسلمون المتعصبون، المسلمون الفاشيون، المسلمون الشوفينيون، المسلمون المتطرفون، المسلمون الراديكاليون، العدميون، الانتحاريون ...»
لا نجزم أن الساحة خالية من الأشرار ولكن الأشرار يتبعون كل الأطياف وليس طيفا واحدا. العرب والمسلمون متدينون بشكل طاغ، ولكنهم ليسوا وحدهم في هذا. الأمريكيون ربما أكثر تدينا من المسلمين وأكثر تعصبا لمسيحيتهم من المسلمين «الجهاديين» لدرجة أنهم لا يستطيعون النظر إلى العالم إلا من خلال ثنائية مقيتة تستند إلى كون غيرهم من الأشرار وهم الأخيار. وهكذا يرون حروبهم من وجهة نظر دينية ثنائية فقط. الخير (الغرب) يحارب الشر (الشرق). تدين الأمريكيين وتشبثهم الحرفي بمسيحيتهم تدين مخيف. وخير مثال عليه الرئيس الأمريكي السابق الذي وصل به الأمر إلى الاعتقاد أن الله كان يلهمه بكل القرارات التي اتخذها ومنها قرار غزو العراق والمآسي والكوارث التي أحدثها.
هل تعلمون، قرائي الأعزاء، ماذا يقرأ التلاميذ في أمريكا، إضافة إلى درس الدين والصلاة؟ إنهم يقرأون كتاب اسمه «كلوريوس أبيرنس» أي الظهور المجيد الذي بيعت منه أكثر من 70 مليون نسخة. ماذا يقول هذا الكتاب؟ يقول في آخر الزمان سيأتي المسيح وبإشارة من يديه سيحدث أخدودا في الأرض ويرمي فيه الكفار (المسلمون وغيرهم) في نار أبدية». وظهر مقال عن هذا الكتاب في الصحيفة ذاتها التي يكتب فيها فريدمان.
السؤال هو ماذا لو دُرس كتاب كهذا في السعودية مثلا ووضعنا مكان الكفار (اليهود والنصارى). أعتقد لأقام فريدمان وشلته الدنيا على المسلمين وتدخل البيت الأبيض واللوبي الصهيوني و و ...
وما الدعم الأمريكي الأعمى لإسرائيل إلا جزء من الحرب الدينية. إسرائيل عبء اقتصادي وجيوبوليتيكي وسياسي كبير على الولايات المتحدة، إلا أنها تريحهم دينيا، لأن وجود اليهود في الأراضي المقدسة حسب وجهة نظرهم الدينية سيعجّل بقدوم المسيح. ولهذا سيبذل هؤلاء المتطرفون دينيا من الأمريكان «الجهاديون المسيحيون» الغالي والرخيص في سبيل إرضاء إسرائيل.
وهكذا لا تستغرب عزيزي القارئ من دعوة جريدة مرموقة مثل «واشنطن بوست» إلى تبني خطاب وعبارات «مجازية وبائية» لمحاربة الجهاد في الإسلام. وعليه، كما تقول مجلة شؤون الأمن العالمي الأمريكية، فإن الغرب سيفشل في حربه ضد أعدائه (العرب والمسلمون) إذا قبل بمصطلحاتهم كما هي. بمعنى آخر بجانب البندقية يجب محاربة العدو من خلال مصطلحات «وبائية» تظهر العدو كوباء فتاك يجب اجتثاثه.
كيف يرد العرب والمسلمون على هذه الهجمة الإعلامية الشرسة؟ ليكن هذا موضوع مقال قادم.
أدامكم الله
وإلى اللقاء