أين ذهبت ثروتنا من الذهب الأبيض؟!
لا أعني الذهب الحقيقي، الذي تجاوز كل المعايير السعرية فضرب الأرقام القياسية مرة تلو الأخرى، ولا أيا من المعادن الأخرى التي تنعم بها أراضينا، ولكني أعني المخزون الهائل الذي ننعم به، وهو المخزون الاستراتيجي الثاني بعد النفط، إنه الأراضي البيضاء (الفضاء) والتي تعد بلادنا من أغنى بلاد العالم بها.
أين ذهبت ثروتنا الهائلة من الذهب الأبيض؟ الإجابة واحدة فقط لا أملك ولا يملك أي قارئ أو مشاهد أو مستمع أو أصم أو أعمى سوى هذه الإجابة.. لقد منحت هذه الأراضي للمواطنين، بأشكال وطرق ووسائل مختلفة، فتارة يعلن عن المنح للمواطنين وغالباً لا يعلن، وتارة يتم المنح لفئة معينة دون أخرى كموظفي وزارة معينة أو كما تم المنح لأساتذة الجامعات، وغالباً تكون هذه المنح محدودة بمساحة معينة في حدود بناء منزل، فيما عدا مئات الحالات الاستثنائية التي تجاوزت فيها مساحات المنح بعض قرى المملكة!
لقد لفت نظري ما كتبه زميلي في هذه الصفحة الدكتور يوسف القاسم، والذي فصّل في الحكم الشرعي في المنح وخلاصة ما قاله ''إن الإقطاع أو ما يسمى اليوم بالمنح، يصح من الحاكم بشرط المصلحة، كما يجوز المنح (الإقطاع) على سبيل المنح المؤقت ليتم الاستفادة منه لمدة معينة ثم يعاد للدولة متى انتهت المصلحة من المنح مثل عقود الامتياز للأراضي للتنقيب أو المحاجر، وإن كان المنح المؤقت بغرض الزراعة فإنها تتحول ملكاً للممنوحة له بالإحياء''.
أزعم أن هناك العديد من منح الأراضي تمت بناء على المصلحة وهي التي تتم للمواطنين لبناء مساكنهم عليها، وعند منح الأراضي لبناء المسكن يتوقع أن تكون المنحة بمواصفات محددة، ويدور في خلدي سؤال لا أجد له إجابة وهو لماذا لا يتساوى المواطنون في الحصول على المنح، مثلاً وأقول مثلاً لأني أعرف نماذج متعددة لفروق غير عادلة في التعامل بين الدوائر المختلفة، أقول لماذا يحصل منسوبو الجامعات على المنح، وفي أراض داخل المدن وبمساحات كبيرة! في حين لا يحصل مواطنون آخرون من منسوبي قطاعات حكومية أخرى وقد يكونون أكثر إخلاصاً وأكثر فائدة للمجتمع! بل لماذا لا يحصل باقي المواطنين العاملين في القطاعات غير الحكومية على الامتيازات نفسها! ولماذا يحصل بعض المواطنين على أكثر من منحة وفي أكثر من مدينة وأكثر من موقع، في حين يتحول المسكن عند البعض إلى محنة بدلا من منحة!
وهنا أطرح تساؤلا كبيراً بمساحة أكبر منحة في المملكة، ما مدى شرعية منح الأراضي بالمساحات الضخمة التي تزيد مساحاتها على مساحات بعض الأحياء السكنية، بل وحتى أنها تزيد على مساحة بعض القرى في المملكة، إلا إذا كان مسكن الممنوحة له بمواصفات قصر أو مزرعة أو لبناء حي سكني عليها!
التساؤل الثاني الذي لا يقل عن سابقه أهمية ما الحكم الشرعي للمنح التي استولت على مواقع الحدائق العامة أو مواقع المدارس داخل المدن أو لمواقع تجارية أو لمواقع سياحية تقدر قيمة المتر فيها بعشرات الآلاف من الريالات!
إن الثروة الضخمة التي تختزنها الأراضي البيضاء في المملكة لا يمكن تجاهلها، وعندما تمنح الأراضي لمن تمنح له أياً كان ولأي سبب كان فإنها تعد استنزافاً لأحد أهم مصادر الثروة التي تمتلكها الدولة ممثلة في بيت المال، وهي بالتأكيد ثروة محدودة ستنتهي يوماً ما، ولا أتذكر أنني سمعت أو رأيت أي إعلان في يوم من الأيام لإقامة مزاد لبيع أي أراض للدولة مما يؤكد وللأسف أن ثروتنا الأغلب من الأراضي البيضاء تلاشت كمنح للإهداء وليس لبناء المساكن أو لتحقيق مكاسب حكومية من ورائها، بما يعني أن المنح أو الإقطاع لم يكن في غالبه للمصلحة التي اشترطها الشارع الحكيم لجواز المنحة!
أتساءل هنا عن معلومة تنظيمية، هل الأراضي التي تملكها الدولة محصورة لدى جهة معينة تتولى حفظها ورعايتها ومسؤوليتها أمام ولي الأمر؟ وهل يحق للجهة الحكومية التي تملك الأرض أن تمنحها لمن تشاء من المواطنين؟
حفاظاً على ثروتنا من الضياع في مهب الريح يجب أن يتم تنظيم المنح (الإقطاع) بشكل رسمي وعادل وبكل شفافية، وأقترح أن تنحصر المنح في موضعين لا ثالث لها، الأول لإحياء الأرض الزراعية، حيث لا تمنح فعلياً إلا بعد الإحياء فعلاً (لا شكلاً) واستمرار الإحياء والإنتاج الزراعي لمدة خمس سنوات بعد ذلك وعدم السماح بتحويل هذه الأراضي من زراعية إلى سكنية لمدة لا تقل عن 25 عاماً، الموضع الثاني المنح للمواطنين للسكن وذلك بشروط سأفصلها لاحقاً، كما أقترح أن يمنع منعاً باتاً نقل الملكية (الإفراغ) لأي أرض أو عقار من أي جهة حكومية إلى أي فرد أو مؤسسة أو شركة خاصة، وبالتالي ستكون هناك مركزية في منح الأراضي تخضع لرقابة وتدقيق وتمحيص دقيق، ولا تمنح الأراضي بناء على مطالبة المواطنين، بل يتم تخصيص الأراضي آليا لكل مواطن بلغ الـ 18، وأن تتم المنح في مخططات محددة داخل النطاق العمراني ومكتملة الخدمات وتخصص للمواطنين حسب أولوية بلوغ المواطنين سن الـ 18، كل منهم في مدينته، أجزم بأن ذلك سيقضي على تسرب الأراضي غير المشروع، خاصة مع تولي القوي الأمين ورقابة الأجهزة الرقابية.
وأقترح أن توضع شروط للمنح للمواطنين وهي:
- ألا يتم المنح لأكثر من 500 متر مربع.
- ألا يمنح المواطن أكثر من منحة واحدة طوال حياته.
- أن تكون المنحة ضمن مخطط سكني معد للمنح، مكتمل الخدمات.
-ألا تكون المنحة أرضاً تجارية أو سياحية.
- ألا تكون المنحة مستغلة أو مخصصة لمنفعة عامة (حديقة – مدرسة – مرفق... إلخ).
- ألا تزيد القيمة المقدرة للأرض الممنوحة على 300 ألف ريال، ويمكن مراجعة المساحة دورياً.
- ألا تكون المنحة في منطقة صناعية.
- ألا تكون المنحة مطلة على أي من الواجهات البحرية.
أخيراً.. سيكون التطبيق الأمثل للمنحة، هو أن يتم منحها ومعها المسكن بتمويل من صندوق التنمية العقاري، بما يسد الاحتياج الفعلي للمواطن، وتغطية إحدى أهم احتياجات الرفاه الأساسية للمواطن وهي السكن.