الاستدامة في الإسكان
يسرُّني بمناسبة انعقاد فعاليات المؤتمر الدولي الأول للتقنية والاستدامة في العمران في رحاب جامعة الملك سعود، الذي تنظمه كلية العمارة والتخطيط برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز؛ أن أخصص مقال اليوم للحديث عن الأحياء والوحدات السكنية المستدامة. وقد يتساءل بعض القراء الكرام عن ماهية الاستدامة؟ وما أهميتها؟ ولماذا تُعقد لها المؤتمرات؟
ويسرُّني أن أوضح أن مصطلح الاستدامة من المصطلحات الحديثة نسبياً التي ظهرت عالمياً خلال العقود القليلة الماضية، علماً بأن الاستدامة مفهوم إسلامي عمره يزيد على أربعة عشر قرناً ومنبثق من مفهوم استخلاف الإنسان في الأرض، وتكليفه بالحفاظ على مواردها، والاستمرار في إعمارها واستصلاحها، وعدم الإضرار بها أو إفسادها.
وعلى الرغم من اختلاف التعاريف الحديثة الخاصة بالاستدامة إلا أن جميعها يدور حول تلبية احتياجات الأجيال الحاضرة، وتحسين جودة حياتهم المعيشية، دون الإضرار بالأنظمة البيئية، أو الإخلال بمتطلبات الأجيال القادمة واحتياجاتهم. وللاستدامة ثلاثة مواضيع أساسية هي: الاستدامة البيئية، والاستدامة الإنسانية أو الاجتماعية، والاستدامة الاقتصادية. ويمكن النظر إلى هذه المواضيع على شكل دوائر بمقاسات مختلفة، أكبرها الدائرة البيئية، وأصغرها الاقتصادية. وهي دوائر غير مستقلة عن بعضها، بل متداخلة ومتقاطعة بشكل مترابط؛ لذا فإن الإخلال بإحداها يؤثر بشكل سلبي ومباشر في الجانبين الآخرين. فالاقتصاد يُعدُّ نظاماً ثانوياً من النظام الاجتماعي الإنساني، الذي بدوره يُعدُّ نظاماً ثانوياً من النظام البيئي الكوني. وقد أصبح مصطلح الاستدامة - في الوقت الحاضر - مصطلحاً ذا مفهوم واسع وعريض، يطبق على كل جانب من جوانب الحياة على وجه الأرض، من المقياس المحلي إلى المقياس العالمي.
ويمكن إيجاز صفات الوحدات السكنية المستدامة في مجموعة من الخصائص؛ فهي مساكن صحية، تلبِّي احتياجات ساكنيها الوظيفية ومتطلباتهم النفسية والاجتماعية، ولا تتطلب إلا جهداً قليلا وتكاليف قليلة لصيانتها ونظافتها وتشغيلها، كما أنها لا تتسبب في جرح خصوصية الجيران، وهي أيضاً مساكن منفذة من مواد بناء غير مضرة بالصحة، ولا تؤثر سلباً في البيئة سواء كان ذلك عند استخراجها من مصادرها الطبيعية أو عند تصنيعها أو نقلها. كما أنها مساكن توفر عزلاً حرارياً جيداً وتستهلك طاقة أقل للتبريد والتدفئة، وتستثمر الإضاءة والتهوية والتدفئة الطبيعية لأقصى حد؛ للتقليل من استهلاك الطاقة الكهربائية، وتستفيد من الطاقة المتجددة بشكل أكبر، وتستهلك مياهاً أقل، وتعمل على تدوير المياه «الرمادية» (وهي: جميع المياه المستخدمة في المسكن غير مياه المراحيض)، وتعيد استخدامها بعد معالجتها وترشيحها، وهي مساكن لا تصدر أي تلوث وتحمي ساكنيها من أنواع التلوث الخارجي جميعها.
أما بالنسبة لصفات الأحياء السكنية المستدامة فيمكن إيجازها أيضاً في مجموعة من الخصائص؛ حيث إنها أحياء رُوعي عند تصميمها احترام التشكيل الطبوغرافي للأرض، والمصارف الطبيعية لمياه الأمطار في الموقع، كما أنها أحياء توفر متطلبات السكان المعيشية جميعها على مختلف أعمارهم؛ من الخدمات التعبدية والتعليمية والصحية والاجتماعية والتجارية والترفيهية، وتوفر لساكنيها الأمن والسلامة، وتهيئ لهم فرصة التعارف وتكوين علاقات اجتماعية قوية، وتشجعهم على التنقل مشياً على الأقدام في بيئة مقبولة وآمنة، وهي أيضاً أحياء توفر الحماية لساكنيها من ملوثات الهواء والضوضاء وغيرها، وتتوافر فيها جميع مرافق البنية التحتية بجودة عالية (خصوصاً مرافق الصرف الصحي)، وفيها أيضاً نظام متكامل وفاعل لعملية جمع النفايات المنزلية، وتدويرها بمشاركة السكان في عملية الجمع والفرز.