لا تنمية مستدامة دون حرب مجتمعية شاملة على الفساد الإداري

من أكثر تعريفات التنمية المستدامة واقعية من وجهة نظري التعريف الذي أطلقه مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية عام 1987م الذي عرفها بأنها ''التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة''، ذلك أنه تعريف يضع إنسان اليوم وإنسان المستقبل كموضوع رئيس للتنمية.
كل من يسبر فكر وسلوك خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز التنموي يتضح له أنه - حفظه الله - يستهدف تحقيق التنمية المستدامة لتنعم الأجيال السعودية الحالية والمقبلة بحياة كريمة متطورة، ما يجعله يوجه بالإنفاق السخي وغير المسبوق على المشاريع التنموية المستدامة، ويحث الجميع على تنفيذها على أكمل وجه، وكلنا نذكر كلمته التي أطلقها عند إعلان موازنة عام 2006م عندما قال (أيها الإخوة.. المهم السرعة لأنه الآن لا يوجد عذر - الآن ولله الحمد - الخيرات كثيرة ولم يبق إلا التنفيذ. آمل منكم جميعا تنفيذ ما جاء في هذه الخطة بأسرع وقت ممكن. وأتمنى لكم التوفيق. وأتمنى لهذا البلد النجاح والأمن والأمان وللشعب السعودي الوفي كل ما يتطلع إليه).
واليوم وبعد موازانات غير مسبوقة تتزايد سنويا حتى وصلت هذا العام 540 مليار ريال سعودي تعاني كثير من المشاريع من التأخير والإخفاق بشكل محزن، ما جعل خادم الحرمين الشريفين يعلن أمام الملأ وعلى شاشات التلفاز بقوله - حفظه الله - موجها كلامه إلى الأمراء والوزراء ''بعض المشاريع إلى الآن ما بينت، ضائعة، لكني آمل منكم من يجد تقصيراً من أي أحد ومنهم وزير المالية أن يخبرني''.
كارثة سيول جدة نكأت جرحا استشعره الجميع من المواطن العادي حتى القيادة وطالبوا بمعالجته، ويتضح ذلك مما نشرته الصحف حول ضرورة التصدي لأسباب الفساد ومظاهره ومما قاله خادم الحرمين في جمع من الأمراء والوزراء والمسؤولين، حيث قال - حفظه الله -''الحمد لله رب العالمين على هذه الميزانية، ولله الحمد فيها الخير وفيها البركة - إن شاء الله، المهم عليكم إخواني إتمامها بجد وإخلاص وسرعة، وعدم التهاون في كل شيء يعوقها، لأن هذه أسمعها أنا من الناس وأحسها بنفسي''. نعم الجرح الذي نكأته سيول جدة فتح ملفات تأخير المشاريع، بل ضياعها في خضم الفساد بشقيه الإداري والمالي الذي أضاع أموال الدولة في ظرف مالي تاريخي وأضعف كفاءتها الإنتاجية في تطوير مشاريع البنى التحتية ومشاريع التعليم والصحة والطرق والصرف الصحي وتصريف السيول، وغير ذلك من المشاريع المهمة والحيوية التي تلامس حياة كل مواطن التي تسعى حكومة خادم الشريفين - حفظه الله - لإنجازها بشكل مستدام إلا أن الفساد جعل بعضها لم ينجز من الأساس، فيما جعل البعض الآخر يتطلب تكاليف صيانة باهظة قبل أن يُشّغل.
الفساد الإداري يُعرّف بأنه ''ظاهرة سلبية تتفشى داخل الأجهزة الإدارية لها أشكال عديدة تتحدد تلك الأشكال نتيجة للثقافة السائدة في المجتمع والمنظمة والنظام القيمي وتقترن بمظاهر متنوعة كالرشوة وعلاقات القرابة والوساطة والصداقة تنشأ بفعل مسببات مختلفة هدفها الأساس وغايتها الرئيسة إحداث انحراف في المسار الصحيح للجهاز الإداري لتحقيق أهداف غير مشروعة فردية أو جماعية''، وهو ما يشير إلى أن جذورا اجتماعية، ولا يمكن القضاء عليه إلا إذا تغيرت ثقافة المجتمع الذي ينخره هذا الفساد.
ومن خلال تجربة شخصية يمارس كثير منا الفساد الإداري، وهو لا يعلم ظنا منه أن الفساد هو فساد الذمة، أي سرقة المال العام بشكل مباشر متناسيا أن تفضيل موظف على آخر بالترقيات والمكافآت والمناصب لصلة عرقية أو إثنية أو طائفية أو جنسية لا على أساس الجدارة (المعرفة، المهارات، الخبرات، السمات الشخصية) أحد أشكال الفساد الإداري ذي الأبعاد المتشعبة المعوقة للتنمية المستدامة بشكل بالغ والأمثلة كثيرة ومتعددة، والمؤلم حقا أن البعض يعتبرها قيم إيجابية ومفاهيم سليمة يفتخر بها القبول. المجتمع بذلك وللأسف الشديد من باب الفزعة والتراحم والتكاتف الاجتماعي إن لم يكن من باب صلة الأرحام.
الفساد الإداري الذي يحقق عوائد غير شرعية للشخص (مجموعة الأشخاص متضامنون) الذي يمارسها (أو يمارسونها) وليس بالضرورة أن تكون هذه العوائد مالية على حساب المصلحة العامة لا يمكن أن يقضى عليه إلا إذا تحركت المؤسسات المعنية بالمحافظة على المصلحة العامة من خلال عدة مسارات أهمهما رفع درجة الخوف من الرصد والمساءلة دون تمييز (الضبط، الإحضار، التحقيق، الإدانة، العقاب المالي والجسدي، والتشهير)، ومعالجة منظومة الدوافع المجتمعية الداعمة لممارسة الفساد الإدارية واستبدالها بمنظومة قيم ومفاهيم تدعم الأمانة والإتقان لنحد من طبيعة الإنسان غير المنضبطة والفوضوية إذا ما تغيبت الأخلاقيات العامة في بيئة اجتماعية تفتقر إلى الضوابط والمساءلة القانونية، كما تؤكد نظريات العلوم السلوكية.
كلنا ثقة بقيادتنا الكريمة التي أكدت على دعمها أجهزة مكافحة الفساد الإداري وثقة بالقائمين على هذه الأجهزة للتكامل مع جميع مؤسسات وأفراد المجتمع لإعلان الحرب على الفساد الإداري للحد من تأثيره السلبي في مسيرة التنمية المستدامة بطرق غير تقليدية تستخدم أحدث التقنيات الإلكترونية المتوافرة للحد من جميع مظاهر الفساد الإداري من رشوة، ومحسوبية، ومحاباة، وواسطة، وابتزاز، ونهب للمال العام، ورفع كفاءة مواردنا المالية والبشرية لتحقيق متطلبات التنمية المستدامة في فرصة تاريخية لن نعذر إذا أضعناها، وأعتقد أن تطوير مؤشر محلي يقيس الفساد الإداري في الأجهزة الحكومية كافة بات ضروريا وملحا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي