استراتيجية الاستثمار بعد الأزمة
لقد تلقى المستثمرون أشد الضربات بسبب الأزمة الحالية. والآن بدأ تنقيح استراتيجيات الاستثمار من واقع الدروس المستفادة.
وفي اعتقادي أن الدرس الرئيس الذي تعلمه المستثمرون هو أن ليس كل عناصر المجازفة جامدة، بل إنها تتطور بطرق غير مفهومة بالكامل حتى الآن ـ ولا يستطيع التنظيم الحكومي أن يعالجها بشكل كامل. ولهذا السبب فإن قدرة الأسواق على تصحيح ذاتها لا بد أن تلعب دوراً هنا أيضاً، وهو ما يفرض على استراتيجيات الاستثمار أن تحاول وضع احتمالات المجازفة الشاملة في الحسبان.
إن المخاطر التي تهدد النظام بالكامل من الممكن أن تنشأ على نحو من الصعب استكشافه، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى ابتكار استراتيجيات تخفيف المجازفة التي تعمل على نحو طيب في حالات الخلل في الأوقات العادية. وبطبيعة الحال، لا تحدث الاضطرابات الشاملة الكبرى كل عام. بل إن عوامل عدم الاستقرار تتراكم إلى أن يصاب النظام بالصدمة ويتوقف عن العمل، وفي توقيت لا يمكن التنبؤ به. وهذا يعني أن التعامل مع المجازفة الشاملة يتطلب فترة زمنية أطول من تلك الفترة المرتبطة بالمجازفات الثابتة غير الشاملة والتي يوليها المستثمرون القدر الأعظم من اهتمامهم. إذا افترضنا أن متوسط العائدات طوال تسع سنوات من أصل عشر سنوات كان ''طبيعياً'' ثم أعقب ذلك ''عام سيئ'' نتيجة لعنصر المجازفة الشاملة، ففي هذه الحالة كمثال، إذا كان عائد استراتيجية الاستثمار 8 في المائة سنوياً في الأوقات العادية، فإن صدمة ضخمة تحدث في ذلك العام السيئ وتبلغ الخسائر المترتبة عليها 20 في المائة، من شأنها تقلل متوسط العائد على مدى السنوات العشر بنسبة 3.19 في المائة، فيصبح بذلك 4.81 في المائة بعد أن كان 8 في المائة طوال تسع سنوات.
إن وضع المجازفة الشاملة في الحسبان ينطوي على معانٍ ضمنية عديدة. على سبيل المثال، قد يفكر القائمون على إدارة وقف ما أو صندوق معاشات في بناء قرارات الصرف على متوسط عائدات طويلة الأجل مع وضع الصدمات المحتملة في الحسبان، بدلاً من بناء هذه القرارات على المتوسط المرجح البسيط للعوائد في الأعوام الماضية أو قيمة الأصول في نهاية الفترة (وهي الممارسة المعتادة الآن).
بالطبع، قد يزعم البعض أن الإصلاحات التنظيمية في فترة ما بعد الأزمة ستتوصل إلى حل مشكلة المجازفة الشاملة الدورية في النهاية، وإننا سنعود إلى عالم أكثر استرخاءً يتسم بالمجازفة الثابتة نسبياً ولا يشهد خللا دوريا في التوازن. ولكنني ما كنت لأراهن على حدوث ذلك.
تشير الأدلة التاريخية إلى أن المجازفة الشاملة مثابرة ومقاومة للجهود التنظيمية الرامية إلى القضاء عليها. وسيستمر الإبداع المالي جنباً إلى جنب مع الموازنة التنظيمية. وفي حين تشكل الأبعاد والمصادر الدولية للمجازفة الشاملة أهمية متزايدة، فإننا حتى الآن لم نشهد سوى قدرة محدودة للغاية على التعامل معها.
هناك بلا شك عواقب تنافسية وغير ذلك من العواقب المترتبة على تبني تناول أكثر محافظة يضع المجازفة الشاملة الدورية في الحسبان، ومن المؤكد أن هذه العواقب ستختلف باختلاف المؤسسات. ولا أريد هنا أن أقترح وجود إجابة سليمة واحدة، بل أزعم أن استراتيجيات الاستثمار وقرارات الدفع لا بد أن تضع في حسبانها الأبعاد الأطول أمداً لعامل المجازفة. ويصدق هذا حتى بالنسبة للمستثمرين الذين يقررون في النهاية أن وضع استراتيجيات رامية إلى توليد متوسط طبيعي أعلى حتى مرحلة ما بعد الصدمة أمر يستحق التفكير.
وقد ينظر البعض إلى المجازفة الشاملة الدورية باعتبارها ميلاً متأصلاً للتراجع نحو المتوسط: قد تنحرف العائدات في الأجل القصير والمتوسط إلى حد كبير ولفترات مطولة عن العائدات طويلة الأجل المرتبطة باستراتيجيات وقدرات استثمارية متعددة. أو بعبارة أخرى، حين تبدو العائدات مرتفعة بصورة غير طبيعية لفترة طويلة، فمن المرجح أن يؤدي شيء ما إلى هبوطها قريباً.
وهذا يشكل أهمية خاصة بالنسبة لكبار المستثمرين، الذين لا يستطيعون ـ خلافاً للسماسرة ـ تجاهل العوامل الأساسية للاقتصاد الكلي من دون التخلي عن القدر المقبول من التنويع. وقد يعمل المستثمرون الناجحون على تخفيف عامل المجازفة من خلال نبذ الأصول التي يرون أن قيمتها مبالغ في تقديرها. ولكنهم رغم ذلك ليسوا محصنين ضد الخطر، وذلك لأن حتى التقييمات العادلة ـ أو التقييمات الأدنى من الحقيقة في الواقع ـ ليست محصنة ضد الضغوط التي تدفعها نزولاً أثناء الأزمات أو فترات إعادة ضبط أسعار الصول في أعقاب تراكم المجازفة الشاملة.
من الواضح أن الحكمة مطلوبة. وأنا أفضل الذهاب إلى افتراض مفاده أن الصدمات تحدث على نحو متكرر نسبياً، ولكنها تتفاوت في أحجامها واحتمالاتها. والنهج المتعقل في التعامل مع الأمر قد يتلخص في التحوط ضد الصدمات المتوسطة المستوى. وقد يساعدنا هذا أيضاً في تخفيف الآثار المترتبة على الصدمات الأضخم وزيادة صافي العائدات المحتمل أثناء الصدمات الشديدة (رغم أن هذا قد يخفض أيضاً العائد المحتمل أثناء الصدمات الأكثر اعتدالا). في قطاع واحد على الأقل، وهو قطاع إدارة السيولة، تعلم عديد من المستثمرين دروساً مؤلمة من هذه الأزمة. فقد كان التركيز موجهاً على نحو غير مناسب على التحديات المرتبطة بالتدفق النقدي والتي تنبع من مجموعة من المحافظ الاستثمارية السائلة الضخمة والصدمات الشاملة الشديدة التي تتسبب في إحداث تحولات عكسية في نماذج التدفق النقدي.
ولكن هناك جانبان آخران من جوانب إدارة السيولة التي تستحق الاهتمام. أولاً، تعمل الاستثمارات السائلة على الحد من قدرة المستثمرين على ضبط محافظهم في استجابة للتحذيرات المبكرة بشأن زيادة عامل المجازفة الشاملة. وثانياً، في أوقات الكوارث الواسعة النطاق، تعمل محافظ الاستثمار السائلة على خلق فرص استثمارية، حيث تجتمع أسعار الأصول المتدنية مع القدرة على الاستثمار، في حين يحجم الآخرون أو يعجزون عن تنفيذ استثمارات جديدة.
وهذا يعني أن السيولة تتمتع بقيمة كبيرة محتملة، وهي القيمة التي ترتفع حين تنشأ المشكلات البنيوية الشاملة. وهذه القيمة لا بد أن ''تضاف'' إلى العائد المنسوب إلى فئات مختلفة من الأصول السائلة في الأوقات ''العادية''، فتؤثر بالتالي في الجاذبية النسبية للأصول السائلة وغير السائلة ـ كما تؤثر في خيارات توزيع الأصول التي تتخذها فئات مختلفة من المستثمرين.
كل ما سبق يسلط الضوء على الحاجة إلى معايير جديدة للأداء والتعويض عن ذلك العامل في التعرض للمجازفة الشاملة الدورية، مع توجيه اهتمام خاص للديون والسيولة. ولابد من الاعتراف بقيمة الديون المنخفضة والسيولة العالية في تجنب نقص التدفقات النقدية، وضمان قدر أعظم من المرونة في تعديل عملية توزيع الأصول، وخلق الفرص في أعقاب الأزمات.
ولعل الأهم من كل ما سبق أن العائدات القصيرة والمتوسطة الأجل، وخاصة أثناء الفترات التي ترتفع فيها هذه العائدات، لا ينبغي أن تعد بمثابة إشارات دقيقة إلى العائدات الطويلة الأجل. ولا ينبغي لنا أن نرسم استراتيجيات الاستثمار استناداً إلى افتراض مفاده أن كل الأوقات هي في الحقيقة أوقات ''عادية''، وأن حالات عدم الاستقرار الدورية هي في الواقع حالات شاذة. إن التحديات المرتبطة بتقييم المجازفة الشاملة وتوقيت حالات عدم الاستقرار لا يسعنا إلا أن ننظر إليها باعتبارها تحديات حقيقية ـ فهي تحديات بالفعل وليست أسباباً لتجاهل الظاهرة.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
www.project-syndicate.org