هيئـة عامة للمشاريع..الخيار الاستراتيجي لإدارة المشاريع في المملكة

يمر أي مشروع سواءً من مشاريع البنية التحتية أو غيرها من المشاريع بعدد من المراحل والتي تبدأ بالتخطيط الاستراتيجي يتبعها وضع أولويات وبرامج زمنية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. وحسب البرنامج الزمني يتم تحديد المشاريع المطلوب تنفيذها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية على المدى القصير والطويل. ويتطلب العمل الاحترافي في إدارة المشاريع، وضع تعريف دقيق وصحيح للمشاريع وتخطيطها بشكل سليم ومن ثم التنفيذ والمتابعة الوقتية واختبار وتسلم المشروع في مراحله المختلفة.
وهنا نطرح عددا من التساؤلات حول الوضع القائم في طريقة ومنهجية إدارة المشاريع في القطاعات الحكومية: فمن يقوم بمهام إدارة المشاريع في قطاعات الدولة؟ من المسؤول عن وضع الأهداف الاستراتيجية للمشاريع والتأكد من أنها تتمشى مع الأهداف الاستراتجية للدولة والوطن؟ من المسؤول عن تحديد نطاق عمل المشاريع؟ من المسؤول عن وضع تقدير تكاليف المشاريع؟ من المسؤول عن التأكد من أهداف المشاريع أثناء تنفيذها حتى الانتهاء منها؟ من المسؤول عن متابعة المشروع؟ وغيرها من التساؤلات. وسنناقش هذه التساؤلات من بعدين: من المسؤول حسب الوضع الحالي ومن ثم ننتقل إلى مناقشة الوضع البديل والمقترح للتعامل مع إدارة المشاريع في القطاعات الحكومية.
تقوم وزارة الاقتصاد والتخطيط بتطوير خطط خمسية تركز على مواضيع التنمية في عدد من المحاور الأساسية مثل التعليم والصحة والخدمات وغيرها. ويفترض على كل قطاع حكومي من خلال المناقشة والتفاوض مع وزارة المالية بإعداد خطة مشاريع خاصة بها لتحقيق أهداف الخطة الخمسية المحددة. ففي منتصف كل سنة مالية (أو بداية الربع الثالث) تقوم كل جهة حكومية بتقديم قائمة مقترحة للمشاريع المستقبلية الخاصة بها مع التكاليف المتوقعة لكل مشروع والمدة الزمنية المتوقعة لتنفيذ كل مشروع لوزارة المالية. وغالبا تتبع المشاريع المقدمة والتكاليف المقدمة من القطاعات الحكومية بيانات السنوات السابقة مع بعض الزيادات – بل إن بعضها يمثل استمرارا لمشاريع سابقة. وبعد ذلك تتم المناقشة بين ممثلين من القطاع الحكومي (غالباً مدير الشؤون المالية ومدير إدارة المشاريع) والجهة المسؤولة في وزارة المالية (إدارة الميزانية). ويتركز النقاش بين الجهتين حول أهداف المشروع وحاجة وأولويات الجهة الحكومية ومبررات الطلب ومدى معقولية المبالغ المطلوبة لتنفيذ المشروع. وبعد عدد من جولات المفاوضات يتم اعتماد ميزانية المشاريع للجهة الحكومية. ويتضح جلياً عدد من الحقائق حول طريقة ومنهجية إدارة المشاريع في هذه المرحلة وهي أولاً أن من يحدد الأهداف الاستراتيجية للمشاريع والتأكد من أنها تتمشى مع الأهداف الاستراتيجية للدولة والوطن هي بشكل رئيس الجهات الحكومية. والحقيقة الثانية أن من يحدد تكاليف المشاريع هي الجهة الحكومية. وهنا نطرح التساؤل الأول: هل الجهات الحكومية هي الأنسب وتملك التأهيل المناسب لوضع الأهداف الاستراتيجية للمشاريع والتأكد من أنها تتمشى مع سياسات وتوجه الدولة المستقبلي؟ ويمكن أيضاً طرح التساؤل الثاني: هل وزارة المالية هي الأنسب وتملك التأهيل المناسب لتقييم مدى تحقيق المشاريع المقترحة من الجهات الحكومية للأهداف الاستراتيجية للدولة والوطن؟ والتساؤل الثالث: هل وزارة المالية من مهامها التحقق من مناسبة المشاريع المقترحة؟
وبعد اعتماد الميزانية للجهات الحكومية تبدأ المرحلة التالية من المشروع وذلك بطرح المشاريع من خلال استخدام نظام المنافسات والمشتريات الحكومي، حيث يتم الطرح من خلال مناقصة عامة أو دعوات مباشرة أو شراء مباشر. ولطرح المشروع تقوم الجهة الحكومية بإعداد وثيقة الشروط والمواصفات ويضاف عليها لاحقاً الشروط العامة ومن ضمنها المتطلبات العامة والنظامية والقانونية وغيرها. وجرت العادة في القطاعات الحكومية على إعداد كراسة الشروط والمواصفات داخلياً ومن خلال تعديل وثائق سابقة تغطي نطاق العمل نفسه أو من خلال الاستعانة بمكاتب خارجية. ويقوم موظفو إدارة المشاريع أو الإدارة المعنية بإعداد وثائق طلب العروض. وتكمن هنا أهمية ودور وتأثير وثيقة طلب العروض في سير ونجاح المشروع. فكلما ضعف مستوى وثيقة طلب العروض من حيث على سبيل المثال عدم وضوح وشمولية نطاق العمل وعدم وضوح ودقة المواصفات الفنية وعدم وضوح وتحديد المسؤوليات في المشروع بين القطاع الحكومي والمقاول كلما زاد احتمال فشل المشروع. ومن خلال ما نرى في الواقع العملي فإن هناك عددا من المشاريع قد فشلت بسبب ضعف وثيقة طلب العروض. وهنا نطرح التساؤل الرابع: هل الجهات الحكومية تملك التأهيل المناسب لوضع أطر ووثائق المواصفات الوظيفية والفنية للمشاريع؟
ويجب ألا يغيب عن الأذهان هنا أن الانتهاء من المشروع أو إنجازه من قبل المقاول وتسلم الجهة أو الإدارة الحكومية للمشروع لا يعني بالضرورة نجاح المشروع. فالتفريق بين القضيتين في غاية الأهمية. فنجاح أي مشروع يتطلب توافر عدد من شروط ومقاييس النجاح وهي تحقق جميع معايير الأداء والأهداف المطلوبة من المشروع بعد تنفيذه وتنفيذ المشروع ضمن الميزانية المتوقعة وخلال المدة المتوقعة. وهنا يأتي دور إدارة المشاريع في القطاعات الحكومية. فبعد طرح المشاريع تبدأ عملية التقييم والاختيار من خلال لجان يتم تعيينها للنظر والبت في جميع المشاريع. وكل هذه المراحل من تقييم العطاءات والتقييم والاختيار يتولاها موظفو الجهات الحكومية كل على حدة. وهنا نطرح التساؤل الخامس: هل الجهات الحكومية مؤهلة لتقييم واختيار العطاء الأفضل؟
وبعد الاختيار تتم ترسية المشروع على الشركة المنفذة للبدء في تنفيذ المشروع. وهنا يأتي دور إدارة المشروع من خلال تعيين مدير أو منسق أو لجنة في القطاع الحكومي لمتابعة تنفيذ المشروع. وفي بعض المشاريع يتم الاستعانة بمكاتب استشارية خارجية للإشراف على المشروع والذي قد يتداخل وأحياناً يتعارض مع دور إدارة المشروع. ويغلب على القطاعات الحكومية عدم وجود إدارة احترافية متخصصة في إدارة المشاريع. فغالباً تتم إدارة المشاريع من قبل موظفين يعملون على إدارة أكثر من مشروع مهما بلغ حجمه إضافة إلى أعمال أخرى موكلة إليهم. كما أن هؤلاء الموظفين يفتقدون المعرفة العلمية والخبرة العملية في إدارة المشاريع وبالتالي فهم يركزون على أداء بعض المهام البسيطة في المشروع تتمثل غالباً في التنسيق بين المقاول والجهات المالية، وخصوصاً فيما يتعلق بمتابعة المستخلصات المالية. ويجدر بنا التنويه إلى أن عامل التأكد من الجودة والمراجعة المستمرة من طرف ثالث مستقل غير متاح في الوقت الحالي. وهنا نطرح التساؤل السادس: هل الجهات الحكومية هي الأنسب ومؤهلة لإدارة ومتابعة المشاريع؟ وهل منسوبو إدارة المشاريع في الإدارات الحكومية أفراد متخصصون في هذا الفن؟ وهل تم تأهيلهم لكي يديروا هذا النوع المتخصص من الإدارة؟
وإذا نظرنا بصورة كلية إلى وضع ونتائج المشاريع بأنواعها لوجدنا أن هناك مشكلات تصاحب عملية تنفيذ واكتمال وتسلم المشاريع نتج عنها – وما زال – فشل بعض المشاريع وتكبد ميزانية الدولة خسائر متراكمة تصل إلى المليارات سنوياً.
وبالتمعن في الأسئلة المطروحة أعلاه نجد أن الجهة الحكومية هي المحور الأكثر تأثيرا في دورة ومراحل المشاريع. فهي التي تحدد أهداف ونطاق المشروع. وهي التي تحدد ميزانية ومدة المشروع. وهي التي تنفذ المشروع. وهي التي تعتمد الدفعات للشركات المتعاقد معها. فالجهة الحكومية حقيقة في هذا السياق تمثل المالك والإدارة والمقيًم والمراجع في الوقت نفسه، وهي مهام لا شك متعارضة وتشير إلى وجود مشكلة تنظيمية في إدارة المشاريع. وهذا يقودنا إلى نتيجة حتمية بأن الوضع الحالي يحتاج إلى إعادة نظر إذا أردنا بمشيئة الله ضمان نجاح المشاريع.
وهناك عدد من الخيارات التي يمكن العمل بها لإصلاح وتطوير الوضع الحالي في طريقة ومنهجية إدارة المشاريع في المملكة. ومن هذه الحلول تفويض المناطق لكي تدير مشاريعها بشكل مباشر من خلال تطبيق مبدأ الإدارة المحلية. وحل آخر يتمثل في إنشاء وزارة للبنية التحتية تعنى بتخطيط وتنفيذ مشاريع البنية التحتية. وهناك مزايا وعيوب لكل من هذه الحلول. وفي المجمل نرى أنه من الصعوبة مناسبة وبالتالي قابلية تنفيذ أي من هذه الحلول في المملكة لعدة أسباب من أهمها أن تخطيط قطاعات وخدمات الدولة يتم بشكل مركزي وهذا يتعارض مع مقترح الإدارة المحلية. وسبب آخر أن إنشاء وزارة للبنية التحتية يتداخل ويتعارض مع وزارات خدمات قائمة من أهمها وزارة الشؤون البلدية والقروية والمياه والكهرباء وغيرها. والأخطر أن مثل هذا المقترح قد يزيد من تعقيد مشكلة إدارة المشاريع.
وفي هذا السياق فإنه بعد أحداث جدة الأليمة طالب البعض بإنشاء هيئة عليا لتطوير مدينة جدة، وهذا ليس حلا للمشكلة ككل، فماذا عن المدن الأخرى هل ننتظر حتى تقع كارثة في كل مدينة ثم يتم إنشاء هيئة عليا لتطويرها؟ أم يتم إنشاء هيئة عليا لتطوير كل مدينة وهذا أمر غير عملي فما دور الوزارات والجهات الحكومية الأخرى؟ وأين هي من أداء دورها ومهامها المنوطة بها؟
والخيار الاستراتيجي للتعامل مع مشكلة إدارة المشاريع بأنواعها في المملكة يتمثل في إنشاء هيئة عامة للمشاريع تتبع رئيس مجلس الوزراء تكون مهمتها دراسة المشاريع المقدمة من الجهات الحكومية وإعطاء الأولوية لمشاريع البنية التحتية والمشاريع ذات الأهمية لجميع مدن ومحافظات المملكة إضافة إلى متابعة جودة التنفيذ. ويمكن من خلال هذه الهيئة إغلاق الفجوة التنظيمية الموجودة بين وزارة المالية والقطاعات الحكومية فيما يخص دورة ومراحل المشاريع. وسنناقش الأدوار والمهام للهيئة المقترحة في مقالات قادمة.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي