الكشف على الحسابات البنكية أول جرعة لمعالجة كارثة جدة

كارثة جدة من أهم أسبابها أن هناك من أؤتمن على أداء مهمة عامة ولم يقم بذلك على النحو المطلوب؛ في غالب الأحوال أنه لم يقم بذلك لأن هناك من أغواه بالتهاون. والإغواء أبرز أدواته المال. إذا لنبحث عنه. إن الحيلولة دون الاستفادة من نتائج الفساد هي أولى خطوات المعالجة. ولا نحتاج في هذا إلى اختراع نووي, فكل ما في الأمر هو الإيعاز لمؤسسة النقد باستحضار ومعرفة تفاصيل الحسابات البنكية لأي موظف له علاقة من قريب أو من بعيد بمشاريع الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار في جدة لمسك أول الخيوط المؤدية إلى جحر أفعى الفساد. وإذا تكاثرت الرسائل في بريدي الإلكتروني مدعمة بمعلومات غنية بالأرقام؛ أرقام المناقصات، وأقيامها وتواريخها، وأسماء المقاولين والشركات - أو الشركة - التي رسا عليها كثير من مشاريع الصرف الصحي وتصريف الأمطار في مناطق متفرقة من جدة، فمن باب أولى أن لجنة التقصي لديها كثير من تلك المعلومات التي تشكل خيطا أوليا لبدء البحث.
إن أشد الأمراض فتكا بأي مجتمع أن يحدث أمام أعين الجميع كارثة أو جريمة ويتملص الجاني من فعلته دون محاسبة. إنها رسالة خطيرة تقول إن هناك من هو فوق القانون وأن التملص من القانون ذو عوائد قيمة جدا. ومشاريع الحكومة لا تتم في يوم وليلة ويغلق الستار عليها؛ بل هي مشاريع مستمرة ما استمر قيام الدولة، وأية بادرة انحرافية لا يتم تعديلها وتصحيحها في أسرع وقت سينتج عنها أن يصبح الانحراف سابقة يؤخذ بها وطريق يتم سلوكه واتباع إرشاداته. مثل “قطع الإشارة”؛ يفعلها أحدهم والبقية تتفرج في البداية؛ ولكن ما هي إلا برهة، حتى يجاريه في فعله متهور آخر؛ ثم الثالث والرابع وهكذا حتى تنفرط المسبحة وتصطك السيارات بعضها ببعض. كارثة جدة تولدت بلا جدال في البدء عبر مخالفة من أحد ما، ثم ترعرعت ونمت واشتد عودها مع توالي الأيام؛ فسيارة الشرطة أو المرور الرقابية لم تكن موجودة في الخدمة في ذلك الطريق وقت ترسية المناقصة. انتشرت الفيروسات بعدها وتكاثرت. الآن اصطكت السيارات وتداخلت في بعضها. النتيجة وفيات تجاوزت 100 وفي ازدياد وأضرار لا يمكن التنبؤ بها. إن لم يحضر رجل المرور بعصا قوية فلا معنى لحضوره. وإذا لم يأت الشرطي ومعه الآليات اللازمة لمحاسبة المتسبب الأول فالحوادث لن تنتهي. لنبحث عن أول مشروع تم إقراره للصرف الصحي وتصريف الأمطار وننبش أين تم تصريف تلك الأموال. ويجب جرد كل التصاريح الصحافية التي سطرها كل حكومي كان يتغنى بقدراته الخارقة على إنهاء مشكلات جدة التصريفية، فلسنا بلهاء حتى نبتلع تصاريحهم المجانية. فهم إما لم يكونوا يعرفون بما يحدث وإما كانوا يعرفون ويستغبون المجتمع، وكلتا الحالتين تستوجب المحاسبة. لا بد من التحقيق مع كل من أشرف يوما ما على أي مشروع في جدة لمعرفة ماذا حدث، ليست تحقيقا على ورق “أبو وجهين” بل تحقيق تكون الحسابات البنكية هي أول شاهد يتحدث ويناقش ويبرر وتشرح تفاصيله. لنتقصى عن كل مقاول وعن كل ريال تم صرفه على كل شبر فليست خزانة الدولة حمى مستباحا لا باب له، لا للتهاون مع أي هللة، فلن يقتلنا إلا الاستثناء. لا تأخذنا الرأفة مع من تسبب في مقتل أكثر من 100 إنسان.
ولنتذكر أن أضعف الوسائل أثرا في مكافحة الفساد هي مكافحته بسرية. لهذا لا بد من العلانية في محاربته، ليشهد عقابهم جمع من الناس حتى تكون عقوبة رادعة لغيرهم. وإن كنا سنلقي بالاً خشية شامت أو رهبة من تساؤل أو سنأبه للوزير الفلاني أو لوكيل الوزارة العلاني أو للتاجر الكبير فلن نصنع شيئا. هذه حقيقة. لنقفل الملف ويكفينا إقامة سرادق العزاء إن كان للمجاملة مساحة مهما ضاقت في التحقيق في هذه الكارثة. القوة في الاعتراف بالأخطاء هي القوة الحقيقية لأن طعمها مر جدا ولا يستسيغه إلا الأقوياء، أما التغني بالإنجازات والتفاخر بها فهو شأن يستطيعه كل أحد، حتى من لا يملك أي منجز يستطيع الهرطقة والخربطة بكل ما تجود به قريحته فلا يوجد تكلفة على الكلام. الاعتراف بالأخطاء وإن كانت حنظلا، إلا أنها وصفة الشفاء، فهي تبتر الأمراض وتكوي العلل وتنهي الآلام. إنها دلالة قوة وتحضر. إنها دلالة قوة لا تخشى أن تأخذ في أحد الاختبارات علامة متدنية لأنها تمشي بكل ثقة، لها هدف واضح اسمه المضي قدما لتحقيق الصالح العام؛ أما الخربشة والتذاكي فقد تنجح مرة ومرتين ولكن المصير الحتمي لها هو هاوية اللامصداقية ومتى استقر المقام في تلك الهاوية فسيكون عسيرا جدا، جدا، الخروج منها. بالطبع سيكون لمرارة الاعتراف بالأخطاء أعداء وستحشد - إن لم تكن قد بدئت - الحشود للتمويه ولذر الرماد ولتغطية السوءات للخروج من هذه العاصفة التي لم تتوقعها طيور الظلام.
يقول عبد الرحمن بن مساعد: ابتدأ بسرقة بسيطة .. وبعدها سرقة بسيطة .. وبعدها تَعدى محيطه... يولي تطبيق النظام .. أولوية واهتماما .. ما يقرب للحرام .. إلا في جنح الظلام. الحسابات البنكية لا تكذب؛ اكشفوها وستضيء ظلمة الكارثة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي