أحداث جدة وضرورة إيجاد وزارة للبنية التحتية وهيئة لإدارة الكوارث

حتى لا نبتلى بكوارث أخرى مستقبلا سواء فيضانات أو انقطاع مياه أو كهرباء أو اتصالات أو حوادث واختناقات مرورية, فإنني أرى أننا يجب أن نبحث موضوع تكوين وزارة للبنية التحتية كما هو موجود في معظم دول العالم مثل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا.وهي وزارات تعمل وفق مؤشرات أداء مطلوبة منها لكل عام وتتم مناقشتها كل عام لمعرفة مستوى الأداء ومدى الإنتاجية. المطلوب وزارة ليست على غرار الوزارات الحالية, بل وزارة فيها جهاز استشاري كبير مؤهل يدعمها خبراء عالميون ويكون لها مخصصات مالية تحت تصرفها وبطريقة مراقبة. وتكون هي الجهة التي تخطط وتشرف على التنفيذ وتتحمل اللوم أو الثناء. وهو مطلب سبق أن تبناه منتدى الرياض الاقتصادي في دورته الثالثة قبل عامين, حيث قدم دراسة لأهمية البنية التحتية وضرورة وضع استراتيجيات لسرعة تنفيذها, وكان من أهمها التوصية بإيجاد وزارة للبنية التحتية نظرا لأهميتها. ولتضع حدا لما يعانيه معظم مناطق المملكة من نقص شديد في وصول البنية التحتية من شبكات المياه والصرف الصحي والطرق وغيرها. البنية التحتية تمثل العصب الشوكي وشريان الحياة لجميع أنشطة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات المتحضرة. ومن دونها لا يمكن تحقيق أي تطور أو رفاهية حضارية للمجتمع. وهذه الحقيقة تؤكدها الدراسات والأبحاث القديمة والحديثة، كما تؤكدها الرؤية الواقعية والراشدة لما تؤدي إليه خدمات البنية التحتية من دعم وتكامل وربط لمقومات الاقتصاد.
وأوضحت الدراسة التأثير الإيجابي لتوافر البنية التحتية, خاصة الاتصالات والطرق, فليس من المصادفة أن تكون الصين وسنغافورة وماليزيا وتايلاند، التي استثمرت جزءا كبيراً من ناتجها الإجمالي المحلي في تطوير خدمات البنية التحتية، أن تكون في مصاف أفضل الدول أداء بين اقتصادات العالم اليوم, وليس من المستغرب ما نراه من اهتمام معظم دول العالم المتقدم بها وتنافسها للاستثمار فيها، حيث تنفق الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أكثر من 150 مليار دولار سنويا, كما تنفق كندا 40 مليار دولار سنويا لإعادة تأهيل البنية التحتية في ولاياتها المختلفة. وتعلق الدول المتقدمة على ذلك أهمية كبرى كوسيلة لتطوير الاقتصاد الوطني وزيادة كفاءة الإنتاج الصناعي، خاصّة أن ما استثمرته تلك الدول قبل 50 عاماً على بناء شبكات الطرق السريعة، قد عاد عليها بأرباح وعوائد مضاعفة. ويوصي البنك الدولي بأن تكرّس الدول منخفضة الدخل ما يعادل 6 في المائة من ناتجها المحلي لتطوير خدمات البنية التحتية, بينما يوصي الدول متوسطة الدخل أن تصل النسبة إلى 3.8 في المائة.
يلاحظ أن الدول التي تعاني نقصا واضحا في خدمات البنية التحتية، مثل إندونيسيا والفلبين، قررت أخيرا أن تنفق كل منهما ما يقارب 50 مليار دولار للسنوات الخمس المقبلة على أن يشارك القطاع الخاص في حدود 44 في المائة من كامل الإنفاق. كما أعلنت أخيرا ماليزيا خطتها التاسعة والطموحة لتنفق خلالها 406 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، على أن ينفق معظم المبلغ للرفع من مستوى خدمات البنية التحتية الحالية.
كما تشير الدراسات إلى أن المملكة والعالم كله يتحضر بسرعة كبيرة, وأن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية أصبحوا يعيشون في المدن, وأن هذه النسبة في ازدياد ليتحول أكثر من 85 في المائة من سكان الكرة الأرضية إلى العيش في المدن خلال الـ 20 عاما المقبلة. وهي ظاهرة نشهدها في المملكة من الهجرة الكبيرة من الأرياف إلى المدن, ما أدى إلى تضخم المدن سكانيا في الوقت الذي لا تستطيع البنية التحتية استيعابهم, لذلك فإن التوجه الدولي يؤكد ضرورة التحسب والتخطيط المسبق لذلك.
وشوهد خلال القرن الماضي أفول ونقص كبير في مدى ما تنفقه الدول في تمويل وتشييد البنية التحتية ما اضطرها إلى تشجيع القطاع الخاص على المشاركة في تطوير الخدمات. وأنجح مثال هو قطاع الاتصالات في المملكة, وأبدع في ذلك قطاع البنوك وهيئات التقاعد والتأمينات الاجتماعية في معظم دول العالم, التي هي الأقدر على توفير الاستثمار طويل المدى في هذا المجال. وتطورت هذه الظاهرة أخيرا بظهور سوق ثانوية تبيع من خلالها تلك البنوك والمؤسسات المالية المختلفة ما لديها من سيولة لجهات وصناديق استثمارية, وهي لا تلغي دور الدولة، بل تسمح لها بالاحتفاظ بالتحكم في السياسات العامة ووضع المعايير والإشراف والمتابعة، بينما يتم تحويل المخاطر الاقتصادية إلى القطاع الخاص وتكسبه نوعا من الكفاءة والرشد المهني، إضافة إلى توفير فرص العمل وتطوير الموارد البشرية للدولة. وتتم ضمن أطر ومحددات يحكمها ويربطها اتفاقيات ومذكرات تفاهم ووفق مخططات شاملة حالية ومستقبلية وضوابط تقنية وفنية متكاملة لتخطيط وتطوير وتنفيذ وتشغيل وصيانة خدمات البنية التحتية على مستوى الدولة.
ويجب علينا أن نعي أن المعايير التقنية والعمرانية لمدى تغطية البنية التحتية للمناطق العمرانية تختلف من مجتمع إلى آخر، حيث تتبنى كل دولة معايير ومقايسات مختلفة تتناسب مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعاداتها وتقاليدها. بينما تخطط الولايات المتحدة للبنية التحتية للمواصلات على أساس أن لديها 750 سيارة/ ألف شخص، يلاحظ أن المملكة المتحدة تخطط على معدل 500 سيارة وتبقى الصين على معدل 50 سيارة. ومع أن اليابان أصغر مساحة وسكانا من الولايات المتحدة، إلا أن لديها شبكة من القطارات السريعة تصل في مجموع أطوالها إلى ألفي كيلو متر، بينما الأخرى لا يصل فيها طول تلك الشبكة إلى 300 كيلو متر. في حين تتعدى الولايات المتحدة اليابان في طول شبكة القطارات التقليدية العادية.
وتبرز أهمية الاستمرار في تخطيط وتطوير وتمويل وتنفيذ خدمات البنية التحتية إلى أنها تساعد على زيادة الناتج الاقتصادي بطريقة مباشرة من خلال زيادة فاعلية وإنتاجية رأس المال وزيادة جاذبيتها للاستثمار الأجنبي ونمو الاقتصاد الوطني وزيادة فاعليته المالية.
وتبنى منتدى الرياض الاقتصادي دراسة للمردود الإيجابي لتوفير خدمات بنية تحتية متكاملة بأمثلة من تطوير خدمات البنية التحتية في مدينتي الجبيل وينبع وإلى ما تم التوصل إليه في الولايات المتحدة من تقييم لمردود تطوير خدمات البنية التحتية الإيجابي على الاقتصاد الوطني. وهي حقائق مبنية على معلومات متراكمة فيما يتعلق بتطوير البنية التحتية الأساسية. وهذا التوجه والاهتمام بالبنية التحتية ودورها في مساندة التنمية المستدامة يدعو إلى التساؤل عن مدى توافر هذا الاهتمام في السعودية ومدى تكامل البنية التحتية فيها وأثر ذلك فيما تواجهه المملكة من منافسة متزايدة من الدول الأخرى لجذب واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، بكل ما يرتبط بذلك من تقنيات ومعرفة بالأسواق التي تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلع إليها الدول في العالم الثالث خاصة.
أعتقد أن أحداث جدة تتطلب منا إعادة النظر في توصيات منتدى الرياض الاقتصادي وأهمها ضرورة إيجاد وزارة للبنية التحتية وبنك مستقل لتمويلها. والبدء في موضوع نفق يضم وينسق جميع الخدمات تحت الأرض بدلا من الحفريات المتكررة. كما دعا إلى مراجعة وتحليل الوضع الحالي لما آلت إليه خدمات البنية التحتية في المملكة. ومحاولة التعرف على مشكلات سياسات التخطيط والتطبيق الحالي وما يتبع ذلك من نتائج وإخفاقات وذلك كي يتم تشخيص المشكلة ووضع الحلول. فمتى نرى تفعيل توصيات المنتدى والاستراتيجيات والآليات التي وضعها لتخطيط وتنفيذ وتمويل لخدمات البنية التحتية بهدف ضمان الوصول إلى تنمية مستدامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي