الفساد .. كيف يصبح وكيف يمسي؟
سيل جدة العرم, كشف سوءات بنيتها التحتية التي كان يراد بها خدمة المدينة وأهلها, فبات الأهل ضحية خراب تلك البنية, هل كان ذلك نتيجة فساد في الذمم أم هو فساد في الفهم؟! نحن وأهل جدة في انتظار ما تنتجه اللجنة التي شكلها خادم الحرمين الشريفين لتبين حقيقة أصل سبب غرق جدة أو بعضها, وريثما تتبين تلك الحقيقة لا بد من الحديث عن الفساد .. كيف يصبح وكيف يمسي؟
معظمنا يدفع متى طلب منه, وأحياناً نقول ''حط باليد تستحي العين'' لذا نبادر بالدفع ونصِر أحياناً ونبرر دفعنا بأنه إكرامية, أو ندلعها ونقول بقشيش عوضاً عن (بخشيش). نعم ندفع حتى نحصل على ما لا نستحق ونعتبره شطارة, أو ندفع حتى نحمي حيازتنا لما لا نستحق ونعتبره حرازة. وفي الجانب الآخر نقبض متى عرض علينا وأحيانا نقول ''ادهن السير يسير'' ونبرر ذلك بأنه تحفيز وتشجيع, وهو بلا شك كرم من المعطي وزكاة فائدته من خدمتنا, ونحن نعلم أن الناس لا تدفع مقابل نيل حقوقها, لكنها تدفع لقاء مكتسبات تتحقق عندما لا نفعل شيئا, لذا نجني ثمن سكوتنا, أو أحيانا نقود الماء إلى الجهة التي تثمر لنا ونقول إنه لا ضير في ذلك طالما هناك ثمر. هكذا يصبح الفساد, فالنار من مستصغر الشرر, البقشيش بعشرة ريالات لفائدة ثمنها 100 ريال لا يختلف عن بقشيش 100 مليون لفائدة قدرها ألف مليون, القيمة السامية التي تحكم المعاملة واحدة فهي تتمثل في ''حقيقة أن أحصل على ما لا حق لي به مقابل بضعة منه'', الفساد هو فساد الذمة, فدافع أو قابض البقشيش الصغير لا يختلف عن هوامير الفساد من حيث توظيف القيم المبررة لذلك, الفساد هو استعداد, فمن يقبل بيع ذمته بثمنٍ بخس هو الشخص نفسه في مكان آخر يبيع ذمته بمبلغ باهظ, فالقضية نسبية.
أنا هنا لا أبرر الفساد بقولي إن كثيرا منا يمارسه, لكني أريد تبيين أن للفساد بيئة خصبة للنمو بيننا, وكل واحد دفع أو قبل رشوة على صغرها, هو بمثابة من قبل أو دفع ملايين الريالات, هل نلوم الفاسدين أم نلوم البيئة التي ترعرعوا فيها؟! كثير منا يسمع المقولة الممجوجة ''المال العام حكمه حكم الضائعة, لك أو لأخيك أو للذئب'' ونضحك أو نستملح تلك المقولة التي لا تقال إلا لتبرير خيانة أمانة ولاية الأمر, نحن كمجتمع لا نحتج ولا نشمئز ممن يتطاول على المال العام سواء بالتخريب أو الارتشاء أو الاستيلاء بغير وجه حق, طالما أن حرزنا بأيدينا, فلسنا وكلاء الله على عباده. والواقع أن كثيرا منا يرى ويعرف بالاسم كثيرا ممن أثروا بصورة مشوبة بشكوك, وأحياناً يعلم علم اليقين فسادهم, ومع ذلك وبحسب كثرة مال ذلك الفاسد يشار إليه بأرفع الألقاب وتلقى في حضرته القصائد وتكتب حول مآثره الكتب, وكل قبيلة تدعي نسبه إليها, هذه الحقيقة تحفز كل ذي شأن وضيع أن يرتقي المعالي بنيل ما لا حق له به, والجمهور الذي يصفق هو المجتمع الضحية نفسه, وعندما تقع البلوى نشتم الفساد وأصحابه.
استفتى أحدهم طالب علم حول جواز دفعه رشوة لحماية حقه من الضياع لدى جهة رسمية؟ فكان الجواب مذهلاً وهو ''أن لا عليه وزر إن لم يجد سبيلا غير ذلك على شرط أن ينكر ذلك في نفسه'', عجباً كيف يكون ذلك, فصاحب الحق قوي بحقه ولا يحتاج إلى أن يداهن لنيله, لكن صاحبنا يدرك أن حقه غير محصن, لذا أراد أن يدلس على طالب العلم وحقق لنفسه فتوى يتقمصها ويذكرها.
إن محاربة الفساد لا تتم بقرار تنفيذي فقط, بل إن أكثر ما يحارب الفساد القرار الاجتماعي, حيث يعي المجتمع ضررها, فيكف عن دفع الرشوة ويمقت من يستحصلها, فيكف ذاك عن طلبها, والرشوة لا تستشري في المجتمعات الصغيرة, نظراً لقوة الرقابة الاجتماعية, لكنها تنتشر وتزدهر في المجتمعات الكبيرة ضعيفة التكوين البنائي, فتصبح الخدمة العامة منة, ويصبح المواطن قليل الحيلة, فيقبل عليها لتحقيق مآربه. وتأخذ الرشوة أشكالاً عدة, فهي ليست دائماً دراهم وأموالا فربما تكون حظوة عند ذي سلطان , أو تكون شفاعة لنيل مراد, أو تكون تمكينا لفعل أو حيازة لشأن أو شيء, فمن يحصل على أي من ذلك دون أن يكون صاحب حق فيه أو يتعلى على من هو أحق منه به فهو راش أو مرتش, والقيمة دائماً هي من جنس العمل أو ما يمكن أن تبادل به.
الفساد في ولاية الأمر العام أمر منكر ولا شك أنه يدخل ضمن الحث على النهي عنه كما جاء في الحديث الشريف ''من رأى منكم منكرا فليغيره .. إلى آخر الحديث'', لذا نحن مطالبون بتغيير ذلك المنكر ليس بأيدينا, لكن بتبليغنا عمن نتحقق إتيانه, وفي أضعف الإيمان أن ننكره في نفوسنا فلا نفعله ولا نقبل به ولا نقتفي أثر صاحبه مطبلين ومزمرين.