مدينة جدة .. نموذج لإدارة المشاريع
نهجت الدولة- أعزها الله - منذ تأسيسها على يد المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - حتى العصر الحالي تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ـ حفظه الله ـ مبدأ إنفاق جزء كبير من ميزانية الدولة وبشكل سنوي على مشاريع البنية التحتية التي تشمل المباني وشبكات الطرق السريعة وشبكات الكهرباء والمياه والصرف والاتصالات والمطارات وغيرها في جميع مناطق المملكة ومدنها.
وليتسنى نجاح هذه المشاريع واستفادة الوطن منها يجب أن تكون هناك خطة استراتيجية وإدارة احترافية لهذا النوع من المشاريع. واستكمالا لطرح سابق حول المشكلات والقصور في منهجية وطريقة إدارة المشاريع الاستراتيجية والتشغيلية في القطاعات الحكومية قد يكون من المناسب النظر في أحد المشاريع العملية وتقييمه من حيث توافر العوامل المطلوبة لنجاح المشاريع. وليس هناك الآن أفضل من مدينة جدة كمثال ونموذج عملي يمكن تعلم واستخلاص دروس كثيرة منها في كيفية إدارة مشاريع البنية التحتية بأنواعها. فعلى مدى أكثر من 50 سنة أخفقت مشاريع رأسمالية وتشغيلية عديدة في مدينة جدة, منها شبكات الصرف الصحي وتصريف السيول وغيرهما, كدليل عملي لا يقبل الجدل على فشل إدارة هذه المشاريع, وسيتكرر فشل هذه المشاريع طالما أننا لم نشخص المشكلة بشكل صحيح ودقيق ومن ثم نعالج الخلل والمشكلة بشكل مباشر.
وإننا نستغرب لمن ينادي الآن بضخ وتخصيص أموال إضافية من ميزانية الدولة للإنفاق على مشاريع إضافية في مدينة جدة لإصلاح البنية التحتية وكأن السبب في فشل المشاريع السابقة يتمثل في تقصير الدولة -وفقها الله - في بذل المال أو محدودية الموارد المالية المخصصة للمشاريع. ويمكن الحصول على بيانات مالية من وزارة المالية توضح الحجم الكبير والسخي للإنفاق الحكومي على مشاريع البنية التحتية في مدينة جدة التي تفوق ما تم إنفاقه على مدن أخرى مجتمعة, ما يعني أن المشكلة الأساسية ليست في تمويل المشاريع. وبنظرة تحليلية عملية وواقعية مما حصل في وضع ونتائج المشاريع السابقة في مدينة جدة فقطعاً هناك عوامل قصور وإخفاق في منظومة إدارة المشاريع لا يمكن أن يكون من بينها البعد المالي. فكما تم ذكره في مقالة سابقة (عدد 5880 وتاريخ 16/11/2009) فإن هناك ثلاثة أطراف في إدارة المشاريع, هي: الجهة الحكومية والمقاول, وعادة وليس دائماً يكون هناك استشاري كطرف ثالث. وأي إخفاق أو تقصير في أحد هذه الأطراف سينتج عنه إخفاق وفشل في المشروع. وبقراءة تاريخية تحليلية لأسباب فشل عديد من مشاريع البنية التحتية في مدينة جدة نجد أن هناك تقصيرا وإخفاقا في أحد أو كل هذه الأطراف. ونعتقد أن أهم هذه الأطراف من حيث التأثير الأقوى على نجاح أي مشروع يتمثل في الجهة الحكومية. وكمحصلة منطقية فإن الجهة الحكومية تعمل وتدير وتوجه المشروع من خلال مواردها البشرية. وبالتالي فإننا عندما نقول إن فشل المشاريع السابقة يكون بسبب إخفاق الجهة الحكومية المعنية فإننا نقصد إخفاق العنصر البشري المسؤول عن هذه الجهة الحكومية من وزير أو من دونه من مسؤولين.
وعلى الرغم من أهمية فهم وتقدير المكونات الأساسية التي يجب مراعاتها وتنفيذها بشكل متكامل لضمان نجاح أي مشروع, المتمثلة في تعريف المشروع والتخطيط والتنفيذ والمتابعة وتسلم المشروع, إلا أننا سنركز هنا على دور الموارد البشرية كأحد أهم أسباب عوامل نجاح أو فشل المشاريع, فكلما كانت هذه الموارد البشرية متخصصة ومؤهلة وعلى مستوى عال من الحس الوطني والأمانة والثقة والولاء لصاحب ومالك المشروع, وهو هنا الوطن, كان ذلك مدعاة لنجاح المشروع. ولا بد أن تتوافر لإدارة المشاريع منهجية علمية مقبولة لإدارة المشروع التي من خلالها يتم تطوير خطة زمنية لتنفيذ المشروع, وخطة لإدارة المخاطر, وخطة لإدارة الموارد البشرية في المشروع, إضافة إلى توفير التقارير الدورية عن وضع وأداء المشروع في مراحله المختلفة.
وبالنظر إلى وضع ونتائج مشاريع البنية التحتية في مدينة جدة على مر السنين السابقة كمثال عملي لطريقة إدارة المشاريع في القطاعات الحكومية فإننا نعتقد أن دور ومسؤولية المسؤول عن الجهات الحكومية لهذه المشاريع هو المحور وهو السبب الرئيس في فشل هذه المشاريع. فكما أن هناك أهدافا مشتركة ومتعارضة بين الجهة الحكومية والمقاول فإن فهناك أيضاً أهدافا مشتركة ومتعارضة بين الجهة الحكومية والمسؤولين في هذه الجهات الحكومية أو بين الوطن والمسؤولين في هذه الجهات الحكومية. وهناك أهداف لأي مشروع تمثل أهداف المالك للمشروع, وهو الوطن والمواطن, وهناك أهداف للمسؤول عن اعتماد وإدارة هذه المشاريع يفترض أنها تتطابق ولا تختلف عن أهداف المالك للمشروع. ونجزم بأنه لو كانت أهداف بعض المسؤولين عن المشاريع في القطاعات الحكومية هي نفسها أهداف ملاك المشروع لما فشل أي من هذه المشاريع. ولنا أن نقارن مقارنة بسيطة بمالك لمشروع فيلا أو عمارة يقوم باستخدام أمواله الخاصة ويقوم بإدارة ومتابعة المشروع بنفسه, فهل يقبل هذا الشخص بفشل أو حتى احتمال فشل المشروع؟ وهل سيستمر هذا الشخص في الصرف على المشروع أو تكرار المشروع في حالة فشله دون بحث أسباب الفشل ومعالجتها؟ وهذا المثال رغم الفارق واختلاف الحجم يوضح خطورة اختلاف مصالح وأهداف بعض المسؤولين عن هذه المشاريع عن مصالح وأهداف ملاك هذه المشاريع, التي في حالة ضعف إدارة وتقييم مخاطر المشروع حتماً ستؤدي إلى فشل أي مشروع.
بعض المسؤولين عن اعتماد وإدارة المشاريع في هذه الجهات الحكومية قد يفوض بعضا من صلاحياته لمن دونه من مسؤولين, وقد يفكر أو يغلب مستقبله ومكاسبه الشخصية والدعائية أثناء وبعد فترة توليه المنصب, ما يعني تركيزه على فترة زمنية قصيرة الأجل لا تتعدى سنتين إلى أربع سنوات بينما طبيعة المشاريع الرأسمالية, خاصة فيما يتعلق بالبنية تتطلب التركيز على فترات طويلة الأجل, وهي حتماً أكثر من أربع سنوات. بمعنى آخر فإن بعض المسؤولين ربما يغلب الأهداف قصيرة الأجل, التي غالباً ما تتعارض مع الأهداف طويلة الأجل للمشاريع الرأسمالية من خلال تركيزه على مصلحته المباشرة, خصوصاً أن الأهداف طويلة الأجل ربما لا تتحقق في فترة توليه المنصب.
وتفويض الصلاحيات من قبل الوزير أو المسؤول لمن دونه من مسؤولين لا يعني إعفاءه من كونه المسؤول الأول عن مستوى وأداء المشاريع داخل الجهة الحكومية, وبالتالي نجاح أو فشل المشاريع. فطبيعة عمل القطاعات الحكومية هي تنفيذ السياسة العليا للدولة في تقديم أفضل الخدمات للمواطن من خلال أداء وخدمة الموظفين للمواطن ومن خلال تنفيذ مشاريع خدمية لتطوير البنية التحتية وغيرها, وبالتالي يفترض أن المسؤولين عن أي قطاع حكومي من وزراء وغيرهم أولا وأخيراً يمثلون مديري مشاريع ينطبق عليهم جميع متطلبات العمل الاحترافي لإدارة المشاريع من ضرورة متابعة صحة ودقة تعريف وتخطيط ومتابعة واختبار نتائج المراحل المختلفة من المشروع.
ويبقى هنا السؤال الملح والمتكرر ما الحل؟ وأخشى ما نخشاه أن ننساق - تحت ضغوط الأزمة - مع الحلول الوقتية التي هي بمثابة مسكن للألم يخفي المشكلة ولكنه لا يعالجها. وكل ما يقترح من ضخ أموال إضافية وغيرها ليست إلا جرعات تهدئة وقتية وتنصل واضح من المسؤولية. ولو سلمنا جدلاً بحجة نقص التمويل، فإن حجم الإخفاق وقسوته لا يتناسب مع حجم النقص في التمويل، وبمنطق آخر فإن مقدار المنجز الذي أمامنا لا يرقى بأي حال من الأحوال إلى حجم الإنفاق الحكومي وسخائه. ونحن بدورنا نقول بكل شفافية ووضوح فتش عن العنصر البشري الذي هو أساس ومحور ارتكاز نجاح أو إخفاق أي مشروع.
ويجب تأجيل تقديم أو مناقشة مقترحات الحلول حتى ننتهي أولاً وثانياً وثالثاً من التشخيص الصحيح للمشكلة وقبولها. وهذه الخطوات تعد ضرورية ومطلوبة قبل مناقشة الحلول. ونموذج مشاريع جدة وفشلها يوضح بجلاء مدى الخلل وحجم المشكلة في قضية إدارة المشاريع في القطاعات الحكومية, الذي ينبغي دراسته وعلاجه, وسيتم نقاش ذلك في مقالات قادمة - بإذن الله- ويجب أن نشيد ونبارك القرارات الفورية التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ـ حفظه الله ـ بتشكيل لجان تحقيق عليا برئاسة أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل - حفظه الله - لتقصي الحقائق ومعاقبة المسؤولين عن إخفاق وفشل مشاريع البنية التحتية في مدينة جدة. وهذه السياسة مهمة في طريق التصحيح من حيث وجود متابعة وتقييم ومراجعة لاحقة لأداء المشاريع, وتعد هذه الخطوة المباركة توطينا لثقافة المحاسبة.
ونتطلع إلى الدور القيادي والمتوقع للمبدع أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل - حفظه الله - كقائد ومهندس لمشاريع مدينة جدة للمرحلة المقبلة. وقد يكون من الأجدى التمهل في طرح أي مشاريع مستقبلية أو أي حلول أخرى. ويمكن تحت قيادة الأمير خالد الفيصل - وهو أحد رواد التنمية في بلادنا - تشكيل فريق عمل مستقل عن الإدارات الحالية ويكون متخصصا وخبيرا لدراسة ومناقشة الوضع الحالي لمدينة جدة ووضع خطة استراتيجية وخريطة زمنية لتطوير المدينة. وللتأكد من ضمان نجاح المشروع المستقبلي يجب تشكيل فريق إدارة مشاريع محترف لمتابعة تنفيذ المشاريع تحت إشراف مباشر من الأمير خالد الفيصل.
وللحديث بقية.