انتفاضة ملك لنصرة ضحايا كارثة جدة
يأتي أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظه الله، بتشكيل لجنة برئاسة الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة، لتقصي حقائق أسباب الفاجعة، التي تسببت في حدوث الكارثة التي حلت بمحافظة جدة، نتيجة لهطول الأمطار يوم الأربعاء الماضي الموافق 25 من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الجاري، استشعاراً منه، بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه والأمانة التي بعنقه تجاه الحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين والمقيمين ببلد الحرمين الشريفين، السعودية، ولا سيما أن ما حدث بمحافظة جدة، لا يمكن التعامل معه على أساس أنه حدث عابر يمر مرور الكرام، دون تقصي الحقائق والوقوف على الأسباب الحقيقية وراء حدوث تلك الفاجعة، التي تسببت في إزهاق حياة أكثر من 100 نفس بريئة، هذا إضافة إلى الخسائر والأضرار المادية، التي أحدثتها الأمطار نتيجة لجرف السيول عددا كبيرا من المركبات وتخريب عدد كبير من المساكن والممتلكات.
إن أمر الملك عبد الله كذلك بصرف مبلغ مليون ريال لذوي كل شهيد غرق في السيول في جدة، وتعويض المتضررين في ممتلكاتهم الخاصة، ينم عن حسه الإنساني العميق ونبله ـ حفظه الله، تجاه الأسر العائلات المتضررة من جراء أمطار وسيول جدة، ولا سيما أن بعض الأسر والعائلات سواء من المواطنين أم من المقيمين، لربما قد فقدوا بسبب أحداث تلك الفاجعة عائلها ومصدر رزقها الوحيد ـ بعد الله سبحانه وتعالى، كما أن مثل هذا التصرف النبيل من قبل الملك، جاء ليؤكد على عمق إنسانيته وحرصه الشديد على مشاطرة المواطنين والمقيمين في هذا البلد العظيم أفراحهم وأتراحهم وأحزانهم في جميع الأحوال وتحت أية ظروف.
في توقعي أن أمر الملك عبد الله بتشكيل لجنة عليا، لتقصي الحقائق وللتعرف على الأسباب التي أدت إلى حدوث كارثة جدة، جاء ليؤكد أن ما حدث في محافظة جدة، لم يحدث بمحض الصدفة، لولا وجود تراكمات وموروثات ومخالفات عمرانية وبيئية وتخطيطية بما في ذلك هيكلية وإنشائية، أدت إلى الإخلال والإضرار الواضح بشبكات تصريف السيول وشبكات التصريف الصحي في المحافظة، نتيجة لتقصير واضح من قبل جهات مسؤولة بما في ذلك مسؤولين، وهي الحقيقة التي أكد عليها الملك في نص الأمر الملكي الصادر بتاريخ 13/12/1430هـ، حينما أشار إلى «أنه ليحز في النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأت تبعاً لكارثة غير معتادة على نحو ما نتابعه ونشاهده كالأعاصير والفيضانات الخارجة وتداعياتها عن نطاق الإدارة والسيطرة، في حين أن هذه الفاجعة نتجت عن أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية وإن من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها منها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا تنتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة وهو ما آلمنا أشد الألم، واضطلاعا بما يلزمنا واجب الأمانة والمسؤولية التي عاهدنا الله تعالى على القيام بها والحرص عليها تجاه الدين ثم الوطن والمواطن وكل مقيم على أرضنا، فإنه من المتعين علينا شرعاً التصدي لهذا الأمر وتحديد المسؤولية فيه والمسؤولين عنه ــ جهات وأشخاصاً ــ ومحاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم دون أن تأخذنا في ذلك لومة لائم تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة، والمسؤولية الملقاة عليه والثقة المنوطة به».
إن توجيه الملك للجنة تقصي الحقائق بالتعرف على أسباب الخلل والقصور، التي أدت إلى حدوث كارثة جدة المأساوية ومحاسبة المقصرين والمتهاونين سواء كانوا مسؤولين أم جهات مسؤولة، وما يستلزم تبعاً لذلك من استدعاء أي شخص أو مسؤول كائناً من كان بطلب إفادته، أو مساءلته عند الاقتضاء، يؤكد على حزمه وإصراره ـ حفظه الله، على عدم التهاون في معاقبة كل من تسول له نفسه العبث بالمسؤولية العامة والواجبات المترتبة عنها، التي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، إنجاز المهام والقيام بالواجبات على الوجه المطلوب، بعيداً عن الإهمال والقصور، وما حدث في محافظة جدة من مأساة يؤكد أن هناك جهات مسؤولة بما في ذلك مسؤولون لم يقوموا بأداء المهام العامة الموكلة إليهم على الوجه المطلوب، الأمر الذي يؤكد عليه انتشار الأحياء العشوائية في المحافظة، التي تجاوز عددها 50 ألف حي، وعدم اكتمال شبكات الصرف الصحي وشبكات تصريف السيول في المحافظة، حيث على سبيل المثال هناك نحو 70 في المائة من جدة من دون شبكات تصريف للسيول، هذا إضافة إلى أن هناك عددا من الأحياء العشوائية والمساكن، شيدت في بطون الأودية ومجاري السيول، التي أصبحت منها بفعل تأثير السيول شبه أو معدومة بالكامل، وخاصة أن شبكات التصريف لا تستوعب أكثر من 25 مليمترا من الأمطار، بينما كانت قد تجاوزت كميات الأمطار التي هطلت على جدة خلال بضع ساعات أربعة أضعاف تلك الكمية، حيث بلغت نحو 95 مليمترا وهو ما يعادل تقريباً ما يهطل على المملكة بواقع عام كامل.
خلاصة القول، إن الفاجعة التي حدثت في محافظة جدة يوم الأربعاء الماضي، نتيجة لهطول أمطار بكميات فاقت استيعاب تصريف شبكات الصرف الصحي، بما في ذلك شبكات تصريف السيول، وتسببت في حدوث أضرار إنسانية وبيئية لا حصر لها، استثارت حفيظة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، واستنفدت صبره على الإهمال الواضح من قبل عدد من الجهات الحكومية، بما في ذلك عدد من المسؤولين، ولا سيما حين النظر إلى حجم الكارثة وتبعاتها، وما قد تسببت فيه من خسائر في الأرواح والممتلكات، هذا إضافة إلى ما قد تتسبب فيه من حدوث آثار بيئية مدمرة للإنسان وللبيئة على حد سواء، وبالذات ـ لا سمح الله ـ في حالة انهيار حوائط الحماية المحيطة ببحيرة المسك، بسبب ضغط السيول وارتفاع مستوى المخزون من المياه، ولا سيما أن حجم المياه اليومية المفرغة فيها تقدر بأكثر من 50 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي، بينما يقدر ارتفاع البحيرة بنحو 125 متراً فوق سطح البحر، ومن هذا المنطلق ونتيجة لما خلفته فاجعة جدة من أضرار مأساوية، غطت مساحة تبلغ نحو 400 كيلومتر مربع تقريباً يقطنها نحو 650 ألف مواطن ومقيم، أمر الملك فوراً بتشكيل لجنة عليا برئاسة الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة، لتقصي الحقائق ومعرفة الأسباب تمهيداً لمحاسبة المقصرين والمهملين في أداء الواجبات العامة والقيام بالمهام الموكلة إليهم على الوجه المطلوب، هذا إضافة إلى أمره ـ حفظه الله، لوزارة المالية حالاً بصرف مبلغ مليون ريال لذوي كل شهيد غرق في السيول.
إن حكمة الملك وتصرفه السريع في التعامل مع فاجعة جدة وتفاعله الإنساني في تعويض المتضررين، تنم عن نبل أخلاقه وحرصه الشديد على حماية المواطن والمقيم على حد سواء من كل شر وسوء، كما أن مثل هذا التصرف السريع من الملك، سيعمل على إرسال رسالة إنذار قوية لكل مقصر ولكل مهمل في القيام بأداء الواجب على الوجه المطلوب، بما في ذلك محاسبة المقصرين والمتهاونين، لينعم الوطن والمواطن ــ بإذن الله ــ بحياة كريمة آمنة ومستقرة تحت قيادته ورعايته الكريمة، والله من وراء القصد.