ما يحدث في مكة: حضور الموصوف وغياب الصفة

ربما يكون من اليسير جدا مقارنة تميز أيّ شيء بمثيله، فأنت تستطيع أن تقارن تميز المعمار الحديث في هونج كونج مثلا بمثيله في سنغافورة، أو مقارنة النمو الاقتصادي في كوريا بمثيله في ماليزيا.. وهكذا، غير أن ما يحدث في مكة المكرّمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة عموما لا يُمكن مقارنته بغيره.. لسبب بسيط وهو أنه لا مثيل له في أيّ مكان في العالم. أنت ترى الجبل فتقول: إنه أقلّ طولا من الهملايا، وأكثر امتدادا من السروات لاكتمال عناصر المقارنة والتشبيه البصري في الحضور المادي للمشبه والمشبه به.. لكن ما يجري في مكة بكل تفاصيله يستعصي تماما على أيّ تشبيه أو مقايسة أو وصف في ظل حضور الموصوف وغياب الصفة اللائقة. ولنبدأ بمعمار التوسعات الكبرى، وتنظيم المداخل والمخارج، وفقا لتراتبيات أعمال الحج وشعائره.. نحن في هذه الحالة لا نرى إلا أنموذجا واحدا وفريدا في كل أصقاع الدنيا هو مكة المكرّمة بمشاعرها، وهذا الأنموذج الفريد من نوعه، قد يُصادر قيمة المقارنة، ويحدّ من القدرة على استيعاب هذا التطور المذهل الذي ينمو عاما بعد عام، لذلك لا سبيل للمقارنة البصرية على الإطلاق، الوسيلة الوحيدة المتاحة للمقارنة هي بإحالة ما يحدث في مكة من نقلات تطويرية مدهشة إلى عامل الزمن لاستذكار واقع هذه المشاعر قبل أعوام مضت، وهذه لا تتحقق لمن يُريد أن يكتفي بالرصد البصري.. لأن مكة العام الماضي لا تشبه مكة هذا العام، ومكة هذا العام حتما لن تشبه مكة العام القادم وهكذا.. لأن يد التطوير والتنمية والإعمار والإضافة لا تكف عن العمل، وهنا يُصبح لزاما لمن أراد أن يُقيم المقارنة أن يستعين بخدمات الذاكرة، أو الأفلام التوثيقية لقياس حجم هذا النمو والتطور في بناء مرافق الحج وإدارة شؤونها.
كذلك الحال بالنسبة لإدارة الحشود وتنظيم تحركاتها، فالحشود التي تجتمع للحج في مكة المكرّمة لا تشبه سواها من الحشود في أي مكان في العالم، لأنها وإن جمعها الإسلام ووحدة العقيدة، فهي في النهاية تنطلق وتلتقي من ثقافات متعددة، وسلوكيات معرفية غير متشابهة، ولغات ربما لا تتواجد حتى في أروقة الأمم المتحدة، فأيّ زقاق ضيق وصغير في هذه المدينة العظيمة قد يجمع، أيام الحج، كل لغات الهند والصين والسواحل واللغات الحية والمحلية.. بل حتى معتقدات مذهبية مختلفة، مما يجعل من أمر إدارتها شيئا بالغ التعقيد، إن لم يكن في خانة الاستحالة، ومع هذا تنجح السلطات السعودية المعنية بشؤون الحج في إدارة تلك الحشود وتوجيهها، دون أن تخدش روحانية المكان ووجدان الحجاج الخاشعين، وبمنتهى الكفاءة والتميز، رغم هذه الجغرافيا الضيقة التي تزنّرها الجبال من كل جانب، ما يكشف عن إرث غير تقليدي في الوفادة، وفهم تلك الاختلافات، ويشي بقدرات غير عادية في التعامل مع تلك الثقافات بذهنيات منفتحة، وكل ذلك بواسطة أبناء هذا الوطن.
إن الحاج الذي يأتي إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج في عام 2009 م، ويرى المسعى مثلا بهذه الصورة الرائعة وهذه الطاقة الاستيعابية العملاقة.. لا يُمكن أن يستوعب أن هذا المسعى كان هو سوق مكة الرئيس في القرن الـ 18، حيث كان الحجاج يؤدون شعيرة السعي بين المتاجر والمباسط والدكاكين على جانبي المسعى في طريقهم ما بين الصفا والمروة، أو حينما يقف في الدور الخامس على جسر الجمرات، ربما لا يتصور شكل هذا المكان قبل بضعة أعوام.. حينما كان الحجاج يختنقون بأجسادهم، وقد يذهب بعضهم دهسا بين الأقدام فيما لو زلت به قدم، نتيجة الاختناق البشري الهائل.
نريد أن نقول إن ما يحدث في مكة والمدينة والمشاعر شيء لا يشبه سواه، لا في الشكل ولا في المضمون ولا في حجم وسرعة وكفاءة التطور.. لأن وطنا بكامله احتشد خلف قيادته لخدمة هذه المشاعر، ولأن دولة من أهم دول الصفوة العشرين الاقتصادية وقفت بكل إمكاناتها، وبإخلاص قادتها وإيمانهم بشرف هذه الخدمة خلف هذه الإنجازات الباهرة التي يلاحق بعضها بعضا في سباق مع الزمن، لذلك حضر الموصوف وغابت الصفة في عجز التعبير عن نعت أو مماثلة أو تشبيه هذا الذي يحدث.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي