الركب كثير والحاج قليل
الحمد لله الذي أتم لعباده الوقوف بعرفة وبلغهم يوم النحر الأعظم، ونسأله تعالى أن ييسر لهم إتمام بقية مناسكهم، وأن يعيدهم لأوطانهم بفضله ومنه غانمين سالمين.
من لا يعرف الحج لا يستطيع أن يتصور مقدار ما تبذله هذه البلاد من جهود سنوية مضنية لخدمة حجاج البيت الحرام وتنظيم تحركاتهم. ومع ذلك فما زلنا في حاجة إلى التطوير والتحسين. ولعل من أكثر الظواهر السلبية المتكررة التي تعانيها مختلف الجهات المنظمة للحج ظاهرة افتراش بعض الحجاج للطرق والساحات المحيطة بالحرم والمشاعر. وكان الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس لجنة الحج المركزية، قد صرح قبيل الحج بأن الدولة ستعمل على مواجهة المخالفات ومنع الممارسات السلبية في الحج بكل أنواعها، وخاصة ظاهرة افتراش الطرق والساحات التي يترتب عليها معاناة الحجاج النظاميين أثناء أدائهم مناسكهم وإعاقة الخطط التي تعدها الأجهزة الحكومية المعنية، حيث ظلت هذه الظاهرة سببا رئيسا لعرقلة حركة سير المركبات والمشاة في المشاعر المقدسة. وقد قدر الأمير خالد الفيصل أعداد المفترشين بنحو مليون حاج غير نظامي، وقد فوجئت بهذا العدد لكني تصورت ما يسببه من عبء على أجهزة الحج الخدمية.
ولمواجهة هذه الظاهرة تم تبني حملة توعوية إعلامية لموسم حج هذا العام، تحت عنوان «الحج عبادة وسلوك حضاري». الغرض منها تنبيه جميع الحجاج إلى ضرورة الالتزام بتعليمات وتنظيمات الحج لفائدتهم وسلامتهم. وغاية هذه الحملة هو تأصيل مفهوم الحج النظامي بين الحجيج لتقليص ظاهرة الافتراش المؤذية والمعطلة. ومفتاح ذلك وبابه هو الحصول أولا على التصريح الرسمي، ثم اتباع الطرق النظامية لأداء المناسك، بالتعامل مع المؤسسات المرخصة والبعد عن مؤسسات الحج الوهمية أو استخدام وسائط النقل غير النظامية تجنبا للوقوع تحت طائلة الجزاءات. وأكد الأمير خالد ــ وهو محق في هذا ــ أن الحج ليس عذرا لتجاوز الأنظمة والإساءة إلى الآخرين. ومع ذلك، سيظل هناك من يخالف الأنظمة كما هو الشأن في كل مكان، لكن علينا العمل على تقليص أعدادهم لأدنى مستوى ممكن حتى نصل لليوم الذي يصعب على المخالفين ممارسة تجاوزاتهم. ولذلك نحن في حاجة اليوم لأمرين:
- بحاجة لمعايير موضوعية ومنهجية لقياس مستوى الأداء ومقدار النجاح في معالجة هذه الظاهرة وسواها من التحديات التي تواجه مختلف القطاعات الخدمية في الحج.
- كما أننا في حاجة مستمرة لتطوير برامج خدمية مدروسة تساعد الناس على الالتزام بالحج النظامي.
وفي سبيل ذلك لا بأس من الاستئناس بتجارب الغير. ويقفز لذهني دائما تجربة ماليزيا الناجحة مع مؤسسة «طابونج حاجي» الادخارية. فقد أنشأت ماليزيا هذه المؤسسة منذ نحو 40 عاما لتجعل كل ماليزي مسلم مستطيعا وقادرا على الحج، دون أن يضطرب أو يتدهور مستواه المعيشي بسبب تحمله فجأة تكاليف الحج الكبيرة عند تقدم العمر به. وقد حققت هذه المؤسسة الفذة نجاحا مذهلا وحصلت على جوائز عديدة. وقد انعكست الكفاءة الإدارية العالية لهذه المؤسسة على الحجاج الماليزيين أنفسهم، فتجدهم من أكثر الحجاج انضباطا وترتيبا وكفاية لأنفسهم واستغناء عن مساعدة غيرهم. كما أنهم أيضا من أكثر الحجاج دراية بمناسكهم وحسن تصرف في جميع شؤونهم. وفي ذلك تخفيف ومؤازرة لجهود القائمين على خدمة الحجيج هنا في بلادنا، مما يرفع من كفاءة هذه الجهود لصرفها وتوجيهها نحو من تشتد حاجتهم إليها من بقية الحجاج. ولا عجب أن نرى هذا من الماليزيين، إذا عرفنا أنه بالفعل يتم تأهيلهم في بلدهم وقبل سفرهم بكل مناسك وخطوات الحج من خلال برامج محاكاة يشترك فيها جميع الحجاج في مجموعات وكأنهم يؤدون الفريضة. ولعل مما يساعدنا على تحقيق هذا الهدف ورفع مستوى فهم ووعي الحجاج بالمناسك، التنسيق مع حكومات الدول الإسلامية لإخضاع الحجاج لمثل هذه البرامج التأهيلية وهم في بلدانهم وقبل منحهم تأشيرات الحج عبر سفاراتنا، والأمر ليس صعبا فأمامنا مؤسسة ناجحة.
تتشابه الأعمال، وتتمايز بالعمـّال .. وكما قال سيدنا عبد الله بن عمر ــ رضي الله عنهما: الركب كثير والحاج قليل. نسأل الله جلت قدرته أن يوفق جميع القائمين على هذه المهمة الشريفة الشاقة ويعينهم على أدائها، وأن يتولى وفده من حجاج بيته الحرام برعايته ويسبغ عليهم من جميل إحسانه وكريم غفرانه، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.