ماذا سيحدث لو اتبعت الحكومة أسلوب النظم في أعمالها؟
تصرف الحكومة مليارات الريالات في مشاريع وخدمات كل عام وتفترض أن هذه المليارات ستتم الاستفادة منها لتنمية ورفاهية وأمن المواطن, وتصدر معظم الأجهزة الحكومية تقارير سنوية تبين إنجازاتها بصورة إحصائية, لكن لا أحد يتحدث عن الأثر الذي تحدثه تلك المليارات في المواطن ومدى رضاه عنها, وكيف يمكن تعظيم ذلك الأثر بصورة مستمرة, والسبب يعود إلى التفكير البيروقراطي أحادي الاتجاه.
التفكير النظمي system thinking ينطلق من قانون طبيعي يحدث بصورة تلقائية في جميع الكائنات الحية من نبات وحيوان, بدءا بالخلية في أبسط صورها وامتدادا إلى الكون الشامل, ويتمثل في أن لكل عملية حيوية مدخلات وينتج منها مخرجات يجب أن تحقق الغرض الذي تقوم عليه تلك العملية الحيوية, وبناء على التقييم المستمر للمخرجات يتم التعديل في المدخلات والنشاط التكويني بصورة مستمرة حتى تحقق المخرجات الغرض بصورة تامة, عند ذلك تقف عملية التعديل ويحدث التوازن التام في العملية الحيوية, وذلك افتراضياً, فالتوازن التام لا يحدث فلسفياً رياضياً ولا واقعيا, فالمحيط مؤثر بصورة متضافرة بحيث يكون التعديل لا متناهي الفرص. هذه نظرية النظام الشامل, هذا النظام يحكم كل خلية حيوية ويحكم هذا القانون كل ما يحدث في أجسادنا بصورة تجميعية للنشاط الخلوي المكون لنا, إلا أن الإنسان لا يفكر بصورة تماثل ذلك, وهو ما يخلق خلافا بين التلقائية اللاإرادية للنشاط الحيوي للإنسان والوعي التخطيطي للعقل الإنساني, فالعقل البشري يتدخل بصورة إرادية في التقييم والتعديل حتى يصل إلى نتيجة حتمية لتطابق الغرض المراد, والغرض المحقق يقوم بالتعديل بصورة عكسية فيتم التعديل في الغرض المراد ليطابق نتيجة المخرج فيتم التوازن التام بصورة قسرية, هذا الأسلوب في التفكير يحتم على الإنسان نهج أسلوب تفرعي في التقييم والتعديل, ما يحتم عليه خرق قانون النظم الحلقي وتكوين سلوك اتجاهي في التفكير فيعتمد النتيجة مرجعية لتقييم الغرض, لذا نجد كثيرا من النشاطات الإنسانية قاصرة في تحقيق أهدافها, فمثلا عندما تريد جهة حكومية بناء طريق ضمن مواصفات محددة وعند إتمام العمل نجد أن الطريق لا يتطابق بصورة تامة مع المواصفات تعمد الجهة الحكومية إلى التعديل في المواصفات الأصلية لتطابق المنجز بصورة عامة, وذلك ناتج عن تأثير السلوك التفكيري للمسؤولين والمنفذين على حد سواء فكل منهم يدرك أن النتيجة حتمياً لن تكون مطابقة للمخطط لذا تتكون القناعة لديهما بالقبول بحقيقة المنجز.
ولكن ماذا لو تبنى المسؤولون في الأجهزة الحكومية التفكير النظمي وبات التعديل يحدث في المخرجات لتطابق المخطط؟ سنجد أن أي عمل سيستمر إلى ما لا نهاية حتى يتم تطابق المخطط مع المنجز, وهذا غير مقبول عملياً, فالإنسان يريد أن يختم الأعمال بالإنجاز ويبدأ عملا جديدا بأهداف جديدة, صحيح أن التعديل المتعدد الذي يحدث للمخرجات والعمليات يقربها إلى حد كبير مع المخطط, وهو ما يعبر عنه بالحدود المقبولة للخلاف بين المخطط والمنجز. وهناك إشكالية في تقدير مدى التعديل المناسب للوصول إلى الإنجاز المقبول. وهذا يختلف باختلاف النشاط الإنساني, فالنشاطات التي تؤدي إلى تكوين منتجات في صورة سلع أو مرافق يكون التعديل المتعدد مرهقا ومكلفا, لذا يكون في الحدود الدنيا, وحيث إن التأثير المعاكس لتطابق المخطط بالمنجز يكون محكوما بعوامل شديدة الأثر كالتأكسد والتعرية والكوارث الطبيعية فإن ذلك يحتم قبول المنجز في الحدود التي تخضع للتأثير الأدنى لتلك المؤثرات العكسية, أما عندما يكون النشاط الإنساني منجزا لمفاهيم ونظم وسياسات وخدمات فإن التعديل المتعدد يكون قليل التكلفة, ويجب أن يكون مستمرا حتى يحدث التطابق بين المخطط والمنجز بصورة شبه تامة, ويكون الاستمرار محكوما بمدى قوة المؤثرات العكسية التي تتمثل في نتائج التطور في مفاهيم الإنسان واحتياجاته المتأثرة بتراكم التطور التكنولوجي.
لعل القارئ الكريم بعد قراءة ما تقدم بات يتساءل: ما فائدة كل هذه الفلسفة, طالما أن تحقيق تطابق المخطط بالمنجز مستحيل, وبالتالي ما تقوم به الأجهزة الحكومية من أعمال هو في حكم المقبول على أحسن الفروض؟ أقول هذا صحيح, لكن المقصود من هذا المقال هو اقتراح أن يتم تدريب المسؤولين الحكوميين, خصوصاً ذوي المناصب العليا المؤثرة في تحقيق المنجزات على التفكير النظمي حتى يتمنهج لديهم العمل بصورة تمكنهم من التعديل المتعدد والمستمر للحصول على إنجاز أفضل ويصبح التقييم المبني على صياغة واعية ودقيقة للأهداف جزءا من نشاطهم اليومي, فمثلاً لو تم ذلك في وزارة كوزارة التربية والتعليم وبات لديها مشروع وضع نظام تعليمي يحقق مخرجات تؤدي إلى إكساب الطلاب عند التخرج في مراحل التعليم العام معرفة ومهارة وسلوكيات موصوفة بدقة, فإن عليها تصميم عملية إرادية مستمرة تقوم بوضع المدخلات المتعددة التي ربما يمثل كثير منها عمليات حلقية أخرى مثل وضع منهج لمقرر معين يؤدي إلى تحقيق هدف محدد موصوف, وهذا المدخل في حد ذاته هو عملية حلقية مستمرة يتم فيها التقييم والتعديل المستمر, وأحد المدخلات هو عملية التنسيق بين مكونات المقررات بحيث تؤدي إلى غرض التجانس في عقلية التلاميذ, وهذا أيضا عملية نظمية يجري عليها التقييم والتعديل المستمر.
إذاً تبني وتطبيق التفكير النظمي سيجعل المسؤول الحكومي أكثر قدرة على تحديد الأهداف وتقييم المدخلات والعملية التنفيذية وقياس أثرها في جمهور المتلقين, وهذا بلا شك سيحد من سلبية العملية الروتينية الاتجاهية ويقرب العمل الحكومي من حلقية أسلوب النظم.