حتى لا نكون ضحية منهجة العداء: نظرة مختلفة للعلاقة بين أسعار النفط والنمو الاقتصادي

هناك اعتقاد سائد أن ارتفاع أسعار النفط يؤدي دائما إلى كساد اقتصادي في الدول الصناعية. ويستدل من يعتقد ذلك بأن كل حالات الكساد التي مرت بها الولايات المتحدة سبقها ارتفاع كبير في أسعار النفط. وقد صدرت أخيرا دراسة أمريكية عن جامعة سان دييجو لاقت صدى إعلاميا واسعاً أكدت أن الكساد الأخير الذي عانته الولايات المتحدة سببه ارتفاع أسعار النفط في الفترة السابقة، خاصة في النصف الأول عام 2008. وكما هو معروف فإن أعداء النفط استغلوا الدراسة استغلالا بشعاً، رغم المشكلات النظرية والإحصائية فيها. وكما ذكر في مقالات سابقة فإن الغرب نجح في «منهجة» العداء للدول النفطية عن طريق بناء نظريات في المجالات كافة، وجعلها جزءا من الكتب الأكاديمية التي توحي بأن هذه النتائج هي علم صرف لا يمكن الجدال فيه، ولكن، والحق يقال، أن تصرفات بعض الدول النفطية وطرق إنفاقها إيرادات النفط، والتبذير الجنوني لبعض أغنيائها، يزيد من اشتعال النار، ويزيد من عداء الغربيين للنفط، ويسهل تصديق ما يقال عن النفط وأهله.

## تساؤلات حول الأدلة
الذين يقولون إن كل حالات الكساد التي عانتها الولايات المتحدة سبقها ارتفاع كبير في أسعار النفط يستدلون ببيانات تؤكد ذلك، حيث يعتمدون على رسم بياني يوضح أن حالات الكساد الاقتصادي جاءت دائما بعد ارتفاع كبير في أسعار النفط. أما على المستوى النظري فإنهم يفسرون ذلك بأن ارتفاع أسعار النفط هو نوع من «الضرائب على الدخل» الذي يخفض دخل المستهلك، وبالتالي إنفاقه على السلع والخدمات. انخفاض الإنفاق الاستهلاكي يؤدي إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. إذا كان انخفاض الاستهلاك كبيراً فإن النتيجة هي كساد اقتصادي. بعبارة أخرى، هناك دليل نظري ودليل رقمي.
الدليل النظري الذي يقول إن ارتفاع أسعار النفط هو نوع من الضرائب على الدخل غير صحيح، لأن أثر ارتفاع أسعار النفط في سلوك المستهلك يماثل أثر ضريبة على النفط، ولا يماثل أثر ضريبة على الدخل. الفرق بين الأثرين كبير، ولا مجال لشرح الفرق هنا، ولكن حتى لو سلمنا بصحة ما يقولون فإن أي نظرية تعتمد على فروضها، والفرض الأساس في هذه النظرية هو ثبات الدخل، وهم يتجاهلون ذلك. بعبارة أخرى، لن يتأثر سلوك المستهلك بارتفاع أسعار النفط إلا إذا كان دخله ثابتاً أو إذا انخفض أو إذا كان الارتفاع في سعر النفط أكبر بكثير من الارتفاع في الدخل، ولكن إذا زاد دخله بشكل مماثل أو بشكل أكبر فإن ارتفاع أسعار النفط لن يغير سلوك المستهلك.
من هذا المنطلق النظري نجد أن المشكلة لا تكمن في ارتفاع أسعار النفط، إنما في ثبات دخل الفرد أو انخفاضه نتيجة البطالة والكساد. وهناك أدلة كثيرة تثبت ما سبق، منها أن أسعار النفط والنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة استمرا في الارتفاع بين عامي 2002 و2007، ولم يتأثر النمو الاقتصادي الأمريكي بارتفاع أسعار النفط إلا عندما انخفضت دخول المستهلكين في عامي 2008 و2009. ومازالت أسعار النفط تتأرجح في السبعينيات، رغم ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، لأن الانتعاش فشل في تخفيض معدلات البطالة.
الدليل الرقمي الذي يوضح ارتباط ارتفاع أسعار النفط بالكساد غير صحيح أيضا للأسباب التالية:
1. ارتفعت معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة أثناء كل الحروب التي خاضتها نتيجة ارتفاع الإنفاق الحكومي والعسكري. ونتج عن ذلك حصول كساد عند نهاية كل هذه الحروب بسبب انخفاض الإنفاق الحكومي والعسكري، وأثناء الحروب المباشرة وغير المباشرة التي خاضتها الولايات المتحدة. إذا نظرنا إلى البيانات نجد أن كل هذه الأحداث تتطابق مع فترات ارتفاع أسعار النفط. إذا، هل الكساد نتيجة ارتفاع أسعار النفط أم نتيجة انتهاء الحروب؟
2. جاءت كل حالات الكساد بعد انخفاض الإنفاق الحكومي بشكل كبير، ليس في الولايات المتحدة فقط، إنما في الدول الأخرى أيضا، فهل الكساد نتيجة ارتفاع أسعار النفط أم نتيجة انخفاض الإنفاق الحكومي؟
3. جاءت أغلبية حالات الكساد بعد ارتفاع أسعار الفائدة بشكل كبير في الولايات المتحدة وغيرها، الأمر الذي نتج عنه انخفاض الاستثمار والاستهلاك، فهل الكساد نتيجة ارتفاع أسعار النفط أم نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة؟
4. في أغلبية حالات الكساد، انخفض الإنفاق الحكومي وارتفعت أسعار الفائدة في الوقت نفسه، الأمر الذي يفسر حصول الكساد.
5. إذا نظرنا إلى النمو الاقتصادي في الهند والصين، نجد أنه استمر بمستويات عالية، رغم ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية، وسبب ذلك هو استمرار الإنفاق الحكومي في الارتفاع في الوقت الذي استمرت فيه أسعار الفائدة في الانخفاض.
إذا نظرنا إلى فترة ارتفاع أسعار النفط بين عامي 2003 و2008 نجد أنها الفترة الوحيدة في التاريخ التي تضافرت فيها مجموعة من العوامل وهي ارتفاع أسعار النفط، ارتفاع الإنفاق الحكومي، ارتفاع الإنفاق على الأمن والتسليح، وارتفاع الدخول والاستهلاك، في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار الفائدة والضرائب وسعر صرف الدولار. في ظل هذه العوامل، لم تتأثر اقتصادات الدول المستهلكة بالارتفاع الكبير في أسعار النفط.
قد يقول قائل إن الإنفاق الحكومي ارتفع بشكل كبير خلال فترة الكساد ضمن برامج الإنعاش الاقتصادي التي تبنتها الدول الصناعية، وإن أسعار الفائدة انخفضت بشكل أكبر من ذي قبل، ومع ذلك لم نر ارتفاعا كبيرا في أسعار النفط كما حصل في عامي 2007 و2008. هذا الكلام صحيح، لكن الفرق بين ما قبل الأزمة وما بعدها أن السياسات المالية والنقدية في الدول المستهلكة أسهمت بشكل كبير في زيادة الدخول والاستهلاك قبل الأزمة، لكنها لم تسهم في زيادتها بعد الأزمة بسبب تركيز عملية الإنقاذ على البنوك، وليس على تخفيض البطالة التي مازالت تستمر في الصعود. باختصار، حتى تؤتي السياسات المالية والنقدية ثمارها، يجب إعادة الربط بينها وبين الدخول والاستهلاك، ولن يتم هذا إلا إذا انخفضت معدلات البطالة إلى نصف ما هي عليه حاليا، وهذا أمر قد يستغرق بضع سنين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي