ماذا يمكن أن نتعلم من جامع ابن قلاوون في مصر؟

تستهويني الآثار كثيرا. وكثيرا ما وقفت مشدوها ولفترات طويلة أمام نصب أو رقم كتابي أفكر وأتأمل وأتذكر السور القرآنية الكثيرة التي يستهل الله بها حديثه إلى نبيه لجذب انتباهه إلى عظمة الكون الذي خلقه ومن خلاله عظمته سبحانه. وهذه الموجودات التي يقسم الله بها أمام عبده ليست دائما كونية أو فضائية. قد تكون موجودات قلما نكترث لها في حياتنا مثل التين والزيتون.
ولكن لم يؤثر في شيء مما تركه الغابرون كجامع ابن قلاوون في مصر. قد يتصور القارئ اللبيب أن الأمر يتعلق بالبراعة المعمارية والهندسة الإسلامية الرائعة البهاء التي يمتاز بها هذا الجامع. حقا إنه آية في فن العمارة ولكن هذا الأمر لن يدهش على الإطلاق شخصا تمتد جذوره في أرض بني عباس وخلفائهم وما تركوه من عمارة قلّ نظيرها في سامراء وبغداد وكفل وغيرها من الحواضر العربية الإسلامية في هذا البلد الجريح.
حبي وتعلقي وشغفي بهذا الجامع نابع من اكتشاف توصلت إليه وأنا أحدق في أحد أعمدته الرخامية. هذا الاكتشاف المذهل، حسب وجهة نظري، يبرهن بالدليل الملموس نظرتي للإسلام وقرآنه، وأن الإسلام يؤوي ولا يقصي وأن الإسلام ليس فئويا بل يقبل الآخر كما هو ويرفض احتواءه بالإكراه. قد تكون الأحداث الدائرة الآن في العالم، وفي مصر ذاتها، تعطي لدى البعض انطباعا مختلفا ولكن في كثير من الأحيان بإمكان المرء الوصول إلى الحقيقة والجوهر وذلك بملاحظة تصرف الناس البسطاء من الذين لم تفلح العلمنة والعصرنة والبرغماتية والأصولية والتعصب والعصبية في تغيير أنفسهم.
لا أعلم كيف سيتلقى القراء الأعزاء ما سأسرده لهم في السطور التالية. وآمل أن اكتشافي هذا لن يؤدي إلى إثارة سلبية للموضوع بل إلى مزيد من الإيواء من جانب المسلمين وإلى مزيد من الانفتاح من جانب الآخرين. أقول ذلك لأنني لاقيت اعتراضا وموقفا متشنجا وسلبيا من البعض وأنا أشير بيدي إلى أحد الأعمدة الرخامية التي تحمل سقف الجامع. وآمل أيضا ألا يخلط القراء بين جامع ابن قلاوون وجامع ابن طولون. الأخير يعد ثاني أقدم جامع باق في مصر وهو مبنى حسب الطراز العباسي على شاكلة جامع سامراء الكبير وجامع أبي دلف ويقع بشارع الصليبية بالقرب من مسجد السيدة زينب.
وأنا أنظر إلى أحد الأعمدة الرخامية لجامعا بن قلاوون إذا بمجموعة من الشباب معظمهم من دول الخليج العربي تدخل الجامع. بدأ الشباب بالحديث عن جمال القاهرة ورخصها وأماكن لهوها. وإذا بواحد منهم يقول: «لو كان معنا دليل سياحي لشرح لنا بعض الشيء عن هذا الجامع.» قلت بإمكاني أن أدلكم على شيء قد لا يعرفه الدليل وإن عرفه قد يغض النظر عنه». قال أحد الشباب: «ما هو يا عم». قلت: «انظر إلى أعلى العمود. ماذا ترى؟». وبعد هنيهة انبهرت عيناه وصاح: «هذه إشارة الصليب منحوتة في أعلى الرخام. بحق السماء، هل هذا جامع أم كنيسة؟».
ودخل الشباب في جدال بينهم. منهم من دعا إلى إزالة الإشارة فورا لا بل إلى هدم الجامع. ومنهم من قال لا ضير في ذلك. وكي أكون صريحا كانت أصوات الاحتجاج أشد وأقوى من أصوات المهادنة. ووقفت مشدوها ومعاتبا لنفسي لهذا «التطفل» من قبلي. وقلت مع نفسي: «يا ليتني مسكت لساني». وتذكرت الإمام علي ونهج بلاغته الذي يفضل فيه الصمت على الكلام ويتمنى للإنسان رقبة طويلة مثل رقبة الجمل كي يفكر مليا قبل أن يطلق العنان للسانه.
وهمّ بعضهم بترك المكان امتعاضا واستنكارا. وبينما هم في حيرة من أمرهم، التفت إلى الشاب الذي طلبت منه النظر إلى إشارة الصليب في أعلى العمود وقال: «هل أنت مسلم؟» قلت: «هل يؤخر أو يقدم ذلك في الأمر شيئا؟. تعالوا نناقش الأهمية الثقافية والإنسانية والحضارية لهذا الأمر ونفهم ونستوعب أبعاده قبل الحديث عن أي شيء آخر». وبدأت بشرح وجهة نظري:
هذا دليل مادي ملموس على أن الإسلام الحقيقي بإمكانه أن يؤوي ويقبل الآخر وإن كان على خلاف ديني وعقائدي معه. مسألة الصليب وما إذا كان عيسى بن مريم علق عليه مسألة خلافية بين المسيحية والإسلام. وتعرفونها أكثر مني. إذا قبل الفكر والمعتقد والمنهج ما هو فقط مقبول ضمن إطاره وحارب واضطهد كل ما هو خارج إطاره، ينكمش على نفسه ويجف. والفكر والمعتقد والمنهج يزدهر ويورق ويؤتي ثمارا طيبة ويفوح منه نسيم كأنه المسك إذا كانت نوافذه من السعة بحيث تؤوي الآخرين دون أن يفقد جوهره. المسألة تشبه كتابين. الأول تقفل عليه ولا تسمح لأحد الاطلاع عليه أو الاستفادة منه. والآخر تجعله في متناول الجميع كي ينهلوا منه ويستفيدوا من محتوياته في حياتهم. هذا الجامع هو مثل الكتاب المفتوح يدعونا لقراءته بعمق وتمعن ومثل الفكر ذي النوافذ الكثيرة. إن آويت فكر ونهج أناس آخرين وحافظت على نقاوة إسلامك، فهذا ينبع من متانة العقيدة وليس ضعفها والعكس صحيح. هكذا كان الإسلام الحقيقي وهكذا يجب أن يكون من وجهة نظري الشخصية لأنه أصبح اليوم أكبر وأقوى دين سماوي على وجه الأرض. بعد ذلك شرحت للشباب بعض الشيء مما أعرفه عن تاريخ الجامع وتنوع أعمدته منها الرومانية والفرعونية والبطلمية.
وعند زيارتي متحف الآثار المصرية، سألت أحد الأثريين في القسم الإسلامي عن سبب وجود الصلبان على أعمدة الرخام في جامع ابن قلاوون، قال: «العلاقات في ذلك الزمن (قبل نحو سبعة قرون) بين الأديان كانت أفضل بكثير مما هي عليه الآن في مصر. الملك ناصر بن قلاوون طلب من النحاتين والبنائين الأقباط عمل هذه الأعمدة. وهم كعادتهم نقشوا عليها إشارة الصليب ولم يكترث الملك لذلك».
وعند زيارتي لكاتدرائية (كنيسة) القديس مرقس القبطية الأرثوذكسية في العباسية سألت أحد القسس عن جامع ابن قلاوون وصلبانه، قال: «الملك ناصر هدم كنائسنا وسرق الأعمدة منها». قلت له: «الملك ناصر هدم الكنائس كي يسرق الأعمدة لبناء جامعه. ألم يكن بإمكانه أن يزيل الصلبان والصليب أمر مختلف عليه بين المسيحية والإسلام. المسلمون لا يؤمنون بصلب المسيح ولا الصليب».
أترك الأمر لكم قرائي الأعزاء ولكن آمل ألا يغرس رجل الدين القبطي مفهومه السلبي في أذهان رواد كنيسته. وآمل ألا يغير المسلمون رأيهم في جامع ابن قلاوون والصلبان المنحوتة على أعمدته.

وإلى الجمعة القادمة

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي