الأزمة العالمية واندماج المصارف الخليجية

في حين تكهن البعض أن الركود الاقتصادي آخذ في الانحسار, اعتبر آخرون أن الطريق لا يزال طويلا من أجل أن يسترد الاقتصاد العالمي كامل قوته أو يتعافى بعد ركوده الطويل. وبعد الحديث عن برامج التحفيز المختلفة بعد أن أغرق العالم بأزمة اقتصادية لا سابق لها منذ الكساد العظيم في الثلاثينيات إثر تفجر أزمة القروض العقارية العالية, أوضح الواقع الاقتصادي العربي أن القاسم المشترك بين بلد كلبنان والخليج هو وجود عدد كبير من المصارف, لكن لبنان الذي شهد اندماجات مصرفية كثيرة بينما حجم الاندماج المصرفي في الدول الخليجية ما زال يعد ضئيلا.
نظريا فإنه يمكن تعريف مفهوم الاندماج بوجه عام على أنه الحالة التي يتم فيها الجمع بين شركتين، بحيث إن إحداهما هي التي تحتفظ بأهليتها القانونية كمنظمة أعمال، وبالتالي فإن أصول الشركة المدمجة وكذلك التزاماتها تؤول إلى الشركة الدامجة, كما يمكن تعريف الاندماج بأنه شراء وحدة إنتاجية عاملة مثال ذلك قيام المنشأة بشراء منشأة أخرى أو بعض وحداتها الإنتاجية, وكان لتسارع المتغيرات العالمية التي كان من أبرزها التدويل والعولمة وتحرير التجارة في الخدمات والاتجاه نحو تكوين التكتلات الاقتصادية العملاقة أثر واضح في تسارع عمليات الاندماج والتملك على الأصعدة كافة، خاصة على الصعيد المصرفي. الاندماج ليس بالعملية السهلة أو العفوية، بل يخضع لشروط وأحكام كتوافر الرغبة الحقيقية ووضع تصور عملي لمراحل عمليات الاندماج, اختيار اسم المصرف الجديد والعلامة التجارية, التنسيق الفاعل بين وحدات البنوك المندمجة واللوائح والقوانين وتوفير الموارد البشرية و المادية اللازمة, وللاندماج مزايا كثيرة أهمها تحقيق وفورات الحجم الكبير وزيادة قدرة البنك على التوسع وزيادة القدرة التنافسية وتطوير النظم الإدارية, وتحسين الربحية وزيادة قدرة البنك على تصدير الخدمات المصرفية إلى الخارج وتنويع النشاط المصرفي, ونأمل ألا تكون من سلبياته تسريح الموظفين وإحداث بطالة وبلبلة كما حدث أخيرا في بعض البلدان الخليجية, وكما نعلم فإن عالم المصارف واجه تغيرات جمة منذ نشأته ما بين ازدهار وانهيار وخصخصة وتأميم واندماجات وانكماشات، فبسبب طبيعة عملها تتعرض البنوك لكثير من مصادر الخطر نتيجة لأي اضطرا بات أو ضغوط في الاقتصاد, وبعد أن برز موضوع الاندماج المصرفي كإحدى الوسائل لتحسين القدرة التنافسية لدى البنوك وازداد الاعتقاد لدى السلطات النقدية والمصارف التجارية بأن الاندماج هو العلاج الناجح للكثير من المشكلات المصرفية وعلى رأسها تدني ربحية المصارف واضمحلال قواعدها الرأسمالية وضعف قدراتها على مواجهة المنافسة, وحيث إن المنطقة الخليجية تعاني فائضا في عدد البنوك، كثرت المطالبة بالاندماج بين المصارف الخليجية وتزايدت القناعة بأهمية هذا الموضوع الذي لا يعد جديدا، بل نوقش مرات عديدة في المنتديات والمؤتمرات, لكن الأزمة الحالية أبرزته بصورة أكبر، خصوصا في ظل تراجع الإيرادات النفطية، فنمو الطلب على الخدمات المالية سيدعم إقامة بنوك خليجية إقليمية أكبر, وإذا كان هناك ثمة قاسما مشتركا بين البنوك الخليجية فهو صغر حجمها عند مقارنتها بنظرائها من المصارف الغربية الصغيرة التي ربما وصلت ميزانياتها العمومية إلى تريليون دولار, ما يتطلب تعجيل الاندماجات المصرفية الخليجية وجعلها أمرا حتميا, وتحتاج معظم بنوك المنطقة إلى الاقتصادات الشاملة وإمكانية الوصول إلى الأسواق المالية العالمية، على الرغم من كونها ذات أهمية أساسية بالنسبة للتجارة في هذا الجزء المهم من العالم. وفي الوقت الذي تعالت فيه أصوات عديد من المصرفيين المطالبين باندماج البنوك الخليجية لبناء مؤسسات مالية أقوى بعد الأزمة المالية من أجل مواجهة التحديات المستقبلية القادمة، رفض بعض المصرفيين الفكرة، مؤكدين صعوبة تنفيذها على أرض الواقع.
لقد انقسم المصرفيون فبعضهم طالب البنوك بدور أكبر من أجل توفير مناخ جديد يتعلق بعمليات الاندماج بين البنوك في المنطقة، فلا يمكن الدمج بين البنك الاستثماري والتجاري معاً, حيث إن عمليات دمج البنوك الاستثمارية مع التجارية ليس من السهل تحقيقها، لأن كل بنك له دوره في تحسين الأداء ولا سيما أن لكل منها حجم في الدين الموجه إلى الشركات ولا يجب تداخل بعضها مع بعض, وحيث إن اندماج البنوك في دول مجلس التعاون بالتأكيد له علاقة بالأزمة المالية التي هزت النظام المالي العالمي وذلك في خضم البحث عن مؤسسات مالية قوية تجتاز المحن, وفي حين ردد البعض واهما أنه لا توجد أزمة وأن معظم المصارف الخليجية تتمتع بمراكز جيدة، غير أن ظاهر المرحلة المقبلة بعد انحسار الأزمة المالية والاقتصادية أوحى بتنؤات وبتحديات كثيرة ومن الصعب أن ترغم البنوك المركزية الخليجية البنوك المحلية على الاندماج بهذه السهولة, ويجب أن نوضح متطلبات المرحلة المقبلة التي تقتضي التركيز على النوع لا الكم فيما يخص البنوك التي ستخضع لرقابة أكبر في المستقبل وتقليص عدد البنوك، بشرط عدم التفريط في حقوق العاملين المصرفيين, وعليه ينبغي لبنوك الخليج المركزية البدء بتشجيع الاندماج محليا ثم التوسع في أنحاء المنطقة لبناء مؤسسات مالية أقوى, وفي حين أيد مصرفيون خليجيون فكرة الاندماج وأوضحوا أن نمو الطلب على الخدمات المالية سيدعم إقامة المصارف الخليجية المندمجة والقوية بصورة أكبر، خصوصا بعد أن أجبرت الأزمة الناس على أن يكونوا أكثر انفتاحا على موضوع الاندماج وسيكون من الحكمة إقامة بنوك تملك شبكات في جميع أنحاء منطقة الخليج العربية, لكنهم أشاروا إلى بعض المعوقات كتحديد الجهة التي ستنظم عمل بنك إقليمي كبير قبل أن يحين وقت الاندماج عبر الحدود, لذلك يجب تشجيع الاندماجات التي تتم داخل السوق المحلية ونحن في بداية العملية, فالبنوك يجب أن تركز في المرحلة المقبلة على أسواقها المحلية والكثير منها سيؤجل خطط التوسع الطموح. وتأتي خطوة الاندماج عبر الحدود بعد إجراءات الاندماج المحلي فذلك يتوقف على اتفاق الجهات المنظمة على من سينظم عمل المؤسسات الكبرى التي يفترض أن تنشأ عن ذلك الاندماج الكلي, ومن أمثلة عمليات الاندماج الناجحة في المنطقة هي اندماج بنك الإمارات مع بنك دبي الوطني ليتحولا إلى بنك “الإمارات دبي الوطني”, إلى ذلك شكك مصرفيون آخرون في قدرة البنوك الخليجية والعربية على أن تمول بمفردها مشاريع ضخمة في دول الخليج تفوق قيمتها تريليوني دولار, فلا يمكن إنكار مدى تأثر الصناعة المصرفية في منطقة الخليج مباشرة بما حدث في العالم بسبب الدور الذي لعبته البنوك العالمية في المنطقة بعد أن شارفت المشاريع المتوقعة في المنطقة إلى أن يصل حجمها نحو 2.1 تريليون دولار، لقد جذبت وتيرة النمو السريع في الخليج عدداً من البنوك العالمية إلى المنطقة لتوفير الإقراض والخدمات التي عجزت منافساتها المحلية عن تقديمها, وفي ظل الفجوة بين احتياجات التمويل في المنطقة فقد استثمرت الحكومات المليارات في مشروعات البنية التحتية بهدف تنويع اقتصاداتها، وعملت على تعزيز قدرة البنوك المحلية على توفير التمويل, ولعبت البنوك الأجنبية دورا مهما لا أحد يستطيع أن ينكره في عمليات التمويل وإن انتقدها البعض ووصمها كأحد مصادر استنزاف الثروات والمال, تعددت الآراء وتشبث آخرون بها ودافع عن أهمية استمراريتها باعتبار أن منطقة الخليج كانت ولا تزال من أهم مناطق العالم بسبب مواردها المالية والطبيعية, لكن بعد الأزمة طرحت تساؤلات كثيرة عن مصادر التمويل التي يمكن أن تمول خلالها هذه المشاريع العملاقة, فهل لدى البنوك المحلية في دول الخليج القدرة على تمويل هذه المشاريع في ظل انسحاب بعض البنوك العالمية وعزوفها عن تقديم التمويل بالصورة المطلوبة أو التي كانت سائدة في السابق؟ وهل لدى المستثمرين الخليجيين القدرة أو الرغبة في ضخ المزيد من الاستثمارات في هذه النوعية من المشاريع؟ فعلى الرغم من المعوقات المذكورة بما في ذلك مسألة الجهة التي ستنظم عمل بنك إقليمي كبير، إلا أن فكرة الاندماج تبقى ضرورية لتعزيز قواعد رأس المال والتخصص والاستفادة من منطقة يتوقع أن يتجاوز معدل النمو بها نظيره في كثير من المناطق المتقدمة, خصوصا في ظل التوقعات الإيجابية بأن تخرج المنطقة من الأزمة بوتيرة أسرع من الأسواق المتقدمة مثل: أوروبا والولايات المتحدة. الأزمة المالية العالمية قد جعلت كلا من الغرب والشرق يبدوان مشلولين وانتابت الكثيرين مقترحات غريبة من هنا وهناك من أجل السيطرة عليها والحد من تداعياتها بكل السبل, نرجو ألا تشكل هذه التداخلات الاقتصادية المختلفة تناقضا في تقديم الحلول, البنوك المركزية الخليجية تتحمل عبئا أكبر في هذا الجانب, وبعد أن واجهت الوحدة النقدية الخليجية الكثير من العقبات أهمها المواقف المتباينة في بعض الدول كعمان والإمارات وقبلهما الكويت التي ربطت عملتها بسلة عملات, الحديث عن اندماج المصارف الخليجية يجب أن يحظى بأهمية كبرى وألا يصطدم بعقبات الوحدة النقدية نفسها فهو مكمل لها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي