مرحلة ما بعد الأزمة في دول المنطقة: الدروس والتحديات
هناك شبه إجماع على أن الأزمة المالية العالمية قد انتهت وها هو الاقتصاد العالمي يعود تدريجياً إلى وضعه الطبيعي، وإذا ما تحققت معدلات النمو المتوقعة لعام 2010 في حدود 2.5 في المائة، فإن الطلب العالمي على النفط سيرتفع بعد أن تراجع هذا العام، وستحافظ الأسعار على مستويات تراوح بين 70 دولارا و85 دولارا للبرميل في المعدل العام المقبل، مقارنة مع 62 دولارا في المعدل هذا العام، و100 دولار عام 2008. وستشهد دول المنطقة معدلات نمو إيجابية تفوق تلك التي تحققت عام 2009.
غير أن العودة إلى النمو هذا تختلف عما كانت عليه الأوضاع خلال دورات الارتفاع السابقة. ففي السنة الأولى بعد دورة الانكماش للسنوات 73-1972، جاء معدل نمو الاقتصاد العالمي في حدود 6.2 في المائة، وفي السنة الأولى التي تلت دورة الانكماش للفترة 82-1981، كان معدل النمو في حدود 7.7 في المائة، أي أعلى بكثير مما هو متوقع لعام 2010. وهناك اختلاف آخر ألا وهو أن الدول النامية ستنمو بمعدلات أعلى من مثيلاتها في الدول المتقدمة، بعكس ما كانت عليه الأوضاع خلال دورات الارتفاع السابقة. ولا يتوقع لأسعار الفائدة العالمية والمحلية أن ترتفع على الأقل خلال النصف الأول من العام المقبل، ومع وجود نسبة بطالة مرتفعة وقدرة إنتاجية فائضة في الدول المتقدمة والنامية، يتوقع أن تحافظ معدلات التضخم على معدلاتها المنخفضة.
ولقد أصبح الاقتصاد العالمي الآن يُدار من قبل مجموعة العشرين 20G، التي تشمل عديدا من الدول النامية الكبرى بما فيها السعودية، بعد أن كان تحت سيطرة وإدارة مجموعة الدول الصناعية السبعة الكبرى 7G. وستتقلص أهمية مراكز الأفشور والملاذ الضريبي في وقت ستكون فيه الدول الصغيرة المنفتحة على العولمة أكثر عرضة للتقلبات مستقبلاً.
نلاحظ أيضاً أن هناك عودة دراماتيكية للحكومات التي أصبح مطلوبا منها أن تلعب دورا أكبر في الاقتصاد الرأسمالي، فهي اليوم المُقرض والضامن والمالك للبنوك والمؤسسات المالية التي تأثرت بالأزمة. والمفارقة الأساسية هي أنه بعد سنوات عديدة من محاولة تعظيم دور القطاع الخاص في الدول النامية، بما فيها دول المنطقة، انقلبت الأوضاع وأصبح الاعتماد الرئيس على الإنفاق العام لتحريك النشاط الاقتصادي. والتحدي الآن هو عودة القطاع الخاص لقيادة عملية النمو في المرحلة المقبلة.
لقد أظهرت الأزمة مدى هشاشة الوضع المالي لبعض مؤسسات القطاع الخاص في دول المنطقة، مثل شركات الاستثمار في الكويت، شركات التطوير العقاري في الإمارات، بنوك الجملة Banks Wholesale في البحرين، وبعض كبريات الشركات العائلية في السعودية. القاسم المشترك لهذه المؤسسات توسعها السريع واعتمادها المفرط على الائتمان واستخدامها قروضا قصيرة الأجل لتمويل أصول طويلة الأجل يصعب تسييلها عند الحاجة، وأيضاً سوء الإدارة بشكل عام وعدم وجود هيئات رقابة وإدارة مخاطر حصيفة لدى هذه الشركات.
لقد كانت مشكلات هذه المؤسسات مخاطر نظامية Risks Systemic، إذ انعكست على شركات القطاع الخاص للمنطقة ككل، بما فيها تلك التي تدار بطريقة احترافية، كما أنها أدت إلى عزوف المصارف عن الإقراض. من هنا تأتي أهمية وجود المزيد من التعاون والتنسيق بين السلطات الرقابية، سواء الخليجية أو العربية. فعلى سبيل المثال يجب أن يكون هناك تعاون أكبر بين البنوك المركزية وهيئات سوق رأس المال، وفي الدول التي توجد فيها مراكز مالية عالمية مثل مركز دبي المالي العالمي ومركز قطر المالي، فلابد لهيئات الرقابة على هذه المراكز أن تنسق مع البنوك المركزية هناك، حيث لا يكون هناك تناقض في السياسات المتبعة ولتحقيق الاستقرار المالي المنشود. وهناك ضرورة أيضاً للإسراع بقيام بنك مركزي خليجي يوفر آلية رقابة على مستوى المنطقة. وإذا ما قمنا بتأسيس شبكة موحدة لتركزات المخاطر الائتمانية للشركات المقترضة على مستوى المنطقة ككل فإن ذلك سيساعد على الحد من توسع شركات محلية، خاصة العائلية منها، في الاقتراض من أسواق خارجية بأسماء مختلفة، لتصبح بعدها عاجزة عن خدمة هذه الديون في حال تعرضت الأسواق إلى هزة.
ولتفعيل دور هيئات الرقابة المحلية والإقليمية، لابد من وجود إحصاءات تنشر بشكل دوري ودون تأخير، تظهر حجم المضاربة في أسعار الأصول، وحجم الائتمان المقدم على الهامش لتمويل شراء هذه الأصول، إضافة إلى تقديرات العرض والطلب المتوقع في السوق العقاري ومعدلات التضخم للقطاعات المختلفة وغيرها من المؤشرات التي تنبه الهيئات الرقابية عن بداية ظهور فقاعات في أسعار الأصول لتقوم بتنفيسها قبل أن تنفجر. ومع أننا قد شارفنا الآن على نهاية عام 2009 إلا أنه ليس هناك بعد أي مؤشرات أو إحصاءات موثوقة عن معدلات النمو الاقتصادي للنصف الأول من العام، كما أن عديدا من دول المنطقة لم ينشر معدلات النمو أو البطالة عام 2008. وفي غياب الإحصاءات الرسمية، تصبح الأوضاع الاقتصادية وجهات نظر تتأثر بنفسية مطلقيها بين التشاؤم والتفاؤول، مع ما لذلك من تأثير في الأسواق المالية وثقة المستثمر والمستهلك.
أظهرت الأزمة مدى أهمية وجود مصادر تمويل بديلة من سندات وصكوك وما شابه والتي يمكن أن توفر التمويل المطلوب للشركات عندما تتشدد المصارف في الإقراض. ومع تقلص معدلات نمو الإقراض المصرفي أو تراجع أحجام الائتمان المتوافر خلال الأشهر الماضية في بعض دول المنطقة وجدت الشركات نفسها أنها غير قادرة على الحصول على التمويل المطلوب لكون أسواق السندات المحلية والإقليمية ما زالت في مراحل تطورها الأولى. فغالبية السندات التي تم إصدارها أخيرا كانت إما سيادية أو لبنوك ومؤسسات مالية لديها ملكية من قبل القطاع العام.
هناك اختلاف في وجهات النظر بين هيئات الرقابة العالمية، فمنهم من يطالب بفصل كامل بين المصارف الاستثمارية والمصارف التجارية لأن نموذج عمل المصارف الاستثمارية ودرجة المخاطر التي تأخذها تختلف كليةً عن مثيلاتها للمصارف التجارية، في حين قامت هيئات رقابية أخرى بالطلب من بنوك الاستثمار زيادة رأسمالها وتقليص مستوى الرافعة في مديونياتها ووضعتها تحت رقابة وإشراف البنوك المركزية لتعامل معاملة البنوك التجارية. ويبدو أن القرار الذي اتخذته كل من السعودية ولبنان، على سبيل المثال، حتى قبل حدوث الأزمة المالية العالمية بالفصل بين المصرف التجاري والمصرف الاستثماري من حيث تكوين رأس المال والإدارة قد ساعد على زيادة الشفافية وأعطى هيئات الرقابة في هاتين الدولتين قدرة أفضل على تحديد المخاطر. فالمصارف التجارية تعمل كوسيط بين المودع والمقرض ولا يجب أن تُعرض رأسمالها إلى استثمارات غير سائلة أو آمنة، لذا يمكن التعامل مع هذه البنوك كأنها شركات خدمات عامة Utilties وتقديم الحماية لها وقت الأزمات. أما بنوك الاستثمار التي تقوم بأعمال استثمارية لحسابها إضافةً إلى أعمال الوساطة وإدارة المحافظ والمتاجرة بالأسهم والسندات، فهي تأخذ درجة مخاطر أعلى لتحقيق عائد مرتفع، فلابد للمساهمين في هذه الشركات من تحمل الخسائر إذا ما حدثت دون طلب التعويض أو الضمان من الحكومة. وفي الختام، لابد من التشديد على ضرورة تعميق ثقافة إدارة الأعمال في مجتمعاتنا والتي تشمل تطبيق معايير الحوكمة والإدارة الرشيدة، والتقييد بالقوانين التي تضعها الهيئات الرقابية وتحمل مسؤولية الفشل والقبول بالمساءلة. فلا يمكن للبنك المركزي أو هيئة سوق المال أن تضع مراقباً أو شرطياً في كل مؤسسة مالية للتأكد من أن إدارة هذه المؤسسة تقوم بالمهام المطلوبة بحسب القوانين المعلنة سواءً من ناحية إدارة المخاط أو وجود رقابة داخلية صارمة ومجلس إدارة فعال. فالبنوك المركزية ليس مطلوب منها إدارة المؤسسات المالية ومهما كانت الرقابة صارمة فلن تكون كافية، لأن هذه الرقابة هي بالضرورة لاحقة وليست سابقة. ومن ناحية أخرى ليس لدينا ثقافة القبول بالمساءلة، فنحن لم نسمع حتى الآن رؤساء تنفيذيون عرب أقروا بالأخطاء التي ارتكبوها، ومجالس إدارات أعربت عن فشلها في القيام بالمهام الموكولة لها، أو مديرون عامون قدموا استقالاتهم أو تمت إقالتهم بسبب الخسائر التي تكبدتها شركاتهم، والتي لا تعود فقط إلى تأثر هذه الشركات بالأزمة المالية العالمية، بل بسبب سوء الإدارة وسياسات التوسع السريع القائم على الاقتراض المكثف.