تحديات أمام التعليم العام العربي

يهدف نظام التعليم العام إلى تطوير قدرات الإنسان الفكرية والمادية لينشأ إنسانا خيرا رفيع الأخلاق، ومواطنا صالحا، وعاملا منتجا وكفؤا. إلا أن مقننات هذا الهدف، بأبعاده المذكورة، لم تعد تقتصر على المعطيات والسمات الذاتية للمجتمع، حيث إن اتساع وتسارع التبادل والتواصل بين المجتمعات على جميع الأصعدة وبمختلف القنوات، أو ما يعرف بالعولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي ضوء ما يطبع هذه العلاقات من تنافس وتعاون وتخاصم وعداء، أصبحت تملي على نظم التعليم الوطنية واجب سد الفجوات بين بعضها بعضا لا سيما في مجالات المعارف العلمية والمهارات التطبيقية علاوة على معظم مجالات العلوم الاجتماعية. ولا يقتصر التماثل المطلوب على المناهج العلمية ومكوناتها فحسب، بل أيضا على أساليب ووسائل نقل هذه المعارف إلى الأجيال الناشئة، نظرا لأن كفاءة عملية التعليم وفعالية مخرجاتها ستحدد القدرة التنافسية المستدامة للاقتصاد الوطني التي يمثل الإنسان المنتج والمبتكر أساسها ومصدرها.
لهذه الأسباب يلاحظ التقاء وتشابه المناهج المدرسية وأساليب التعليم في الدول المتقدمة اقتصاديا والدول السريعة النمو، بغض النظر عن درجات تبايناتها الحضارية. وإن كان هناك من تباين في المناهج، فإنه ينحصر في بعض الجوانب المتعلقة بمواد التربية الوطنية التي قد تتضمن أبعادا حضارية ذاتية. حيث إن هذه الدول تتعاون وتتنافس فيما بينها في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، إلا أن التنافس يبقى العامل المهم الذي يدفع نحو تبني أحدث المعارف واعتماد أكفأ الأساليب في إعداد و تطوير مواردها البشرية.
إن العالم العربي، كعضو رئيس في المنظومة الاقتصادية والسياسية العالمية، وبحكم اعتماد معظم أقطاره اقتصاد السوق والعلاقات التجارية الحرة مع العالم، هو في أمس الحاجة لتنمية قدراته التنافسية وتعزيز موقعه في النظام العالمي نحو تحقيق التنمية المستدامة من خلال اكتساب الميزة التنافسية التي توفرها موارد بشرية قادرة علميا ومهنيا ومحصنة أخلاقيا. حيث إن الميزة التنافسية التي تقوم على وفرة الموارد الطبيعية غير المتجددة، وبغض النظر عن مدى توافرها، فإنها تبقى مرحلية رهينة بقاء تلك الموارد واستمرار مزاياها. لذا على نظام التعليم بمراحله المختلفة أن يكون ندا لأفضل النظم في العالم كفاءة وفعالية.
إلا أن نظم التعليم العام في المنطقة العربية لاتزال تواجه عددا من التحديات التي تعوق تحقيق الغايات المشار إليها من التعليم ومن أبرزها، العجز في مادة «تقنية الاتصالات والمعلومات» الذي تعانيه معظم المناهج والمتمثل في عدم التركيز عليها بدءا بالسنوات المبكرة للتعليم، وعدم إعطائها الوزن النسبي الذي تستحقه بخلاف الممارسات العالمية الحديثة في هذا المجال. ومما يضاعف من أهمية هذه القضية هو ارتباط هذه المادة عضويا بمنهجيات التدريس الحديثة ووسائلها، فضلا عن دورها الحيوي في تمكين استخدام شبكات المعلومات، وأبرزها «الإنترنت»، كمورد وأداة في عملية التعليم. كما لا تولي معظم المناهج الاهتمام الكافي بعلوم «المكتبة»، أي استخدام المكتبة في السنوات الأولى للتعليم كمرجع للبحث والمطالعة الحرة، كما هو الحال في الدول المتقدمة. هذا إضافة إلى أن بعض الدول العربية لا تعطي الاهتمام الكافي لتعليم اللغات الأجنبية، خاصة اللغة الإنجليزية، بدءا بالسنوات الأولى للتعليم وحتى نهاية مراحل التعليم العام. في حين تباشر الدول المتقدمة مثل اليابان وكوريا الجنوبية تدريسها مع بداية مراحل التعليم العام، مع العلم أن هاتين الدولتين ليستا أقل حرصا من الدول العربية على المحافظة على القيم الحضارية والثقافية الذاتية لديهما. إن التعليم المبكر للغات الأجنبية الواسعة الاستعمال يعتبر شرطا ضروريا لبناء أساس متين لاكتساب مهاراتها عبر سنوات التعليم اللاحقة التي تسهم في تعزيز قدرات التلميذ على الاستفادة من المراجع الدراسية والبحثية، خاصة العلمية والأدبية منها، المتوافرة بهذه اللغات، ناهيك عن تسهيل الاتصال والتواصل مع غير المتحدثين باللغة العربية.
تفتقر معظم المناهج العربية إلى بعض المواد الأخرى المهمة، خاصة في السنوات الأولى من التعليم العام، مثل مادة «التصميم و التكنولوجيا» التي تتيح للطالب تطوير مهارات بناء الأشياء، ومعرفة نسب الأحجام، ومبادئ عمل الأدوات والمعدات التقنية وغيرها من المهارات الأساسية. كما تفتقر بعض المناهج إلى مواد أساسية أخرى مهمة مثل «الموسيقى» و»تدبير المنزل» و»الاقتصاد العائلي» و»الرسم والحرف اليدوية»، و»المحافظة على البيئة».
كما أن تعليم مادة «الرياضيات» في المرحلة الثانوية يقتصر في بعض الدول العربية على الفروع العلمية فقط. وهذا يفتقر إلى مبرر موضوعي، إذ لا مثيل له في التجارب العالمية الرائدة. خاصة أن هذه المادة هي بمثابة الأساس للتفكير المنهجي والموضوعي في جميع الأمور والمجالات، والملكة التي يحتاج إليها الفرد في عيش حياته بجميع أبعادها وتدبير شؤونه المختلفة. كما يلاحظ أيضا أن مواد العلوم الاجتماعية والسياسية في بعض المناهج تعاني ضعف انسجامها مع الجغرافيا السياسية والاقتصادية للعالم أحيانا وانطوائها على الذاتية الحضارية والثقافية أحيانا أخرى وذلك على حساب معرفة الآخر والتواصل معه اقتصاديا وسياسيا وثقافيا.
إن المكانة التي يستحقها العالم العربي في الأسرة الدولية تبقى إمكانية أو احتمالا ما لم يتم مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة التي تفترض ارتقاء الإنسان علما وعملا ومسلكا إلى المستويات التي توفر له القدرة على التنافس بكفاءة وفعالية على المستوى العالمي. والطريق الوحيد إلى ذلك هو من خلال توافر نظام تعليمي على أعلى درجات التطور والكفاءة، وندا لأفضلها في العالم. إن التنمية معركة، إن تمكن العالم العربي من ربحها، فإن جميع التحديات الأخرى التي يواجهها، مهما عظمت، تصبح هامشية وتزول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي