الرؤية (نجم الشمال المهمل)
عبارة الرؤية كما أفهمها هي تجسيد تصويري للطموح يعبر عن مشاعر عميقة تجاه الذات والقيم العليا والمصير، فذكرها يثير نشوة واعتزاز في النفس وتبعث طاقة كامنة تتمثل في العزم على تحقيقها - وقولي كما أفهمها - لأن هناك عشرات بل أكثر من التعاريف التي تساق للتعبير عن الرؤية، فمنها ما يجعلها هدفاً يتحقق، ومنها ما يصورها كحلم، ومنها ما يختزلها في أمنية، ولكن الجميع يتفق في كونها علامة هداية للسير في طريق تحقيق الأهداف كنجم الشمال.
عندما بدأت أستشعر أهمية تحديد الأهداف لإنجاز عمل ذي معنى، كنت أجد أن صياغة الأهداف تكون أفضل وأسهل عندما يوضع تصور خيالي لما يجب أن تكون عليه الحال عند إنجاز العمل بحيث يمثل ذلك الواقع محصلة تحقق كل الأهداف، وبعد أن أصبح ذلك راسخاً في ذهني، بت لا أقدم على عمل دون أن أضع ذلك التصور سواء كان العمل يحتاج إلى أيام أو سنوات، فالرؤية فيما أعتقد، لا علاقة لها بالزمن حيث علاقتها بتغير الحال، فهي تصف الحال المراد ويعبر عنها بعبارات قصيرة يسهل تذكرها وتمريرها للآخر تسمى “عبارة الرؤية” وقد يكون هناك إسهاب في شرح الرؤية بصورة موسعة لمن كان عليه أن يسهم في تحقيقها.
إن أكثر صور وضع الرؤية بساطة يتمثل في إجابة الأطفال عندما يسألون عمّا يطمحون أن يكونوا في المستقبل، ويكون الجواب سريعاً ولكنه يتغير كثيراً مع النمو، وبعد أن يصبح الطفل شاباً لا يسأل هذا السؤال وبالتالي تنام لديه الرغبة في التعبير عنه، وربما يعتبر أن التعبير عنه أصبح واضحاً في طبيعة العمل الذي التحق به، وبعد ذلك يصبح الطموح محكوماً بما يحققه العمل الروتيني وتختفي الصورة التطلعية، وكثير من الناس يصبح رهينة للواقع ينقاد دون استشعار وجهة محددة، أنا شخصياً منذ زمن بعيد وضعت لنفسي عدداً من الرؤى وكلما حققت واحدة وضعت أخرى، وكذلك أشترك مع عائلتي في وضع رؤى جماعية وأشجع ابني وبناتي على وضع رؤى خاصة بكل منهم، لقناعتي بأن ذلك مهم لتحقيق رفاه الحياة وحشد الإمكانات والقدرات لتغيير الواقع إلى آخر أفضل، ولكن كثيراً من الناس لا يقوم بذلك لقلة المعرفة بأهمية وضع الرؤية الشخصية أو يهمل ذلك لما يقتضيه من وعي ودأب على تحقيق الرؤية يمثل عبئاً فكرياً، فعندما كنت أجري مقابلات شخصية لمرشحي الوظائف التي أعمل على اختيار شاغليها كجزء من عملي في استهواء وتوظيف التنفيذيين، أطرح سؤلاً عن مدى وضوح رؤية المرشح للمستقبل الشخصي له وعائلته ومدى توافق ذلك وما ستحققه تلك الوظيفة، وكنت في كثير من المرات أجد بعض المرشحين كمن يستفيق من نوم، فذلك أمر لم يعره كثير اهتمام، وفي مرة عندما سألت أحدهم - كيف يرى نفسه في هذه الوظيفة بعد خمس سنوات – قال لي بتهكم “أرى نفسي أكبر عمراً بخمس سنوات”. وقد استغرب من السؤال وربما أستهجنه، إن من لا يضع رؤية شخصية للمستقبل يكن فرداً بلا خطة عملية لتغيير واقعه للأفضل بذلك يكون تلقائياً رهينة للأحداث التي يخلقها الآخرون.
اعتاد الكثيرون على رؤية عبارات الرؤية تتصدر كتيبات وتقارير الشركات والمؤسسات ويظن كثيرون أنها محصورة في ذلك ومنهم من يظن أنها عبارات دعائية مصاغة بأسلوب أدبي مبالغ فيه، والحقيقة أن هذا الظن محمول على واقع غياب اعتماد الرؤية والتعبير عنها لدى الأفراد والمؤسسات والشركات ومؤسسات الدولة بصورة عامة، وهو ما يفسر حقيقة التعثر الذي يواجه تلك المنظمات، فغياب الرؤية بصورة مدونة يعي بها العاملون على تحقيقها، أو حتى غياب عبارة تعبيرية عنها يدل على عدم وجود خطة تغيير واقع المنظمة، أو الواقع الذي تخدمه تلك المنظمة للأفضل، وإذا وجد عبارة تعبيرية عن الرؤية فهي غير تصويرية في كثير من الأحيان بحيث يصعب تكوين مفهوم عنها حتى لدى المسؤولين عن تحقيقها لذا يستمر في طباعتها على مطبوعات المنظمة، وعندما تسأل رئيس تلك المنظمة عن رؤية منظمته تلك لا يكاد يتذكرها، ناهيك عن التزامه وسعيه لتحقيقها، هذا الخلل راجع لغياب الإعداد الفعال لصياغة الرؤية، فنحن نعرف أن المنظمة عندما تريد إعداد رؤية لها، توظف لذلك مستشاراً ذائع الصيت أو خامدة، وفي كل الحالات يوكل لذلك المستشار صياغة الرؤية فيقوم بما يمليه عليه واجب المهنة بالدعوة لورشة عمل صياغة الرؤية، وقد يسبق ذلك بعض التحضير في استفتاء الموظفين والعملاء والموردين وعرض مرئياتهم حول اهتماماتهم بالمنظمة لكبار التنفيذيين الذين يضمهم ذلك الاجتماع، وبعد أن يبرد احتدام النقاش يقوم الاستشاري بلملمة ما قيل في صياغات متعرجة لاكتساب رضا الجميع ثم يعمد بكلماته لصياغة عبارة رؤية مختصرة تمثل الإجماع العام على تلك الرؤية التي تولد يتيمة من أول يوم، هذا برأيي لب مشكلة وضع الرؤية فهي حل وسط يرضي الجميع ولكنها لا تنتمي لأي منهم. وتكون عبارتها باردة غير وهاجة بعواطف وطموح أولئك المسؤولين عن تنفيذها، إن صياغة الرؤية تحتاج في البداية إلى إدراك للقدرات والإمكانات وتقدير للتحديات التي تواجه المنظمة واستقراء لحاضر البيئة المحيطة واستشراف لمستقبلها، ثم خلق ذلك الطموح كفكرة خلابة تتراءى للقيادي الأول في المنظمة الذي عليه أن يلم الإجماع بين القياديين عليها ثم يسوقها لباقي الموظفين والموردين والعملاء بحيث تصبح تلك الرؤية شغله الشاغل, هكذا بنيت الرؤى العظيمة.
الرؤى العظيمة لم يكن لها أن تتحقق لو لم تكن هاجس أولئك الذين أطلقوها فتحقيق الرؤية يحتاج إلى جهد وحث مستمرين لتكوين الإجماع حولها وفوق ذلك تسليط الإمكانات وبناء القدرات والعمل على إزالة العقبات، فتحقيق الرؤية هو أهم أدوار القائد إن لم يكن الأهم على الإطلاق، فجهود العاملين بحاجة إلى توجيه وتنسيق باتجاه الرؤية ولا يكون ذلك إلا إذا تم ربط رؤاهم الشخصية بما تحققه الرؤية المؤسسية.