Author

تعليمنا العالي يقبل 90 % من الثانوية ويسرّب 65 % من المرحلة الجامعية

|
يحرص وزير التعليم العالي على تصريح سنوي بعد انتهاء قبول طلاب وطالبات الثانوية العامة يذكر فيه نسبة المقبولين من خريجي الثانوية العامة, وكانت النسبة لهذا العام 91 في المائة من الخريجين والنسبة في الأعوام الخمسة السابقة مقاربة لهذا العام. ولكن لم أقرأ أو أسمع أحدا من وزارة التعليم العالي أو من الجامعات يذكر أو يصرح عن نسبة التسرب في جامعة أو في الجامعات عموما طوال السنوات الماضية إلا ما إلا ما قرأته أخيرا على لسان مدير جامعة الملك سعود يذكر فيه أن نسبة التسرب في جامعة الملك سعود تبلغ 45 في المائة. وعلى الرغم من أن مجلس الشورى طالب وزارة التعليم العالي والجامعات مرارا بمؤشرات عن التسرب من الجامعات ولكن لا مجيب. وأول إشارة عن هذه الظاهرة الخطيرة جدا على التنمية كان ما ورد على لسان وكيل وزارة التعليم العالي للشؤون التعليمية من تصريحات عن نية الوزارة البدء في إعداد مؤشرات لقياس نسبة تسرب الطلاب من الجامعات وأسباب هذا التسرب. وفي غياب المعلومة من الجامعات ومن الوزارة عن نسبة التسرب فإنه ليس أمامنا سوى تصديق النسب المتداولة في الصحافة البالغة 65 في المائة. يشرفنا أن تدخل جامعة الملك سعود وغيرها من جامعاتنا قائمة أفضل الجامعات العالمية سواء وفق التصنيف الصيني أو الإسباني أو البريطاني, ولكن يجب ألا تنسينا الهالة الإعلامية أن التميز البحثي لا يمثل إلا ثلث الصورة, والصورة الكاملة تشمل إضافة إلى التميز البحثي التميز التعليمي والتميز في خدمة المجتمع. إن التميز البحثي الحقيقي لا يكتمل إلا عندما يتحول إلى منتج يدخل أسواقنا أو يسهم في حل مشكلة تنموية في اقتصادنا أو يتحول إلى علاج لمرضانا, أما الاكتفاء بعدد البحوث المنشورة في دوريات عالمية وعدد الاقتباسات منها في بحوث أخرى, فهذه سمعة طيبة لجامعاتنا لكن لم نجن ثمرتها نحن. إن الكفاية الخارجية لمنتجات الجامعة البحثية في مجتمعها لا تتحقق على أرض الواقع إلا عندما تتحول نتائج البحوث إلى سلع ومنتجات وخدمات وحلول لمشكلات التنمية والاقتصاد. إن أحد أبرز مجالات التميز الجامعي هو التميز التعليمي ولكن جامعتنا ووزارة التعليم العالي تضرب عنه صفحا وتتجاهله رغم حساسيته للتنمية ومصيريته للتحول إلى اقتصاد المعرفة ورغم سؤال مجلس الشورى والمجتمع عن مؤشراته منذ عشر سنوات. ورغم قربي من التعليم الجامعي طالبا ثم معيدا ثم عضو هيئة تدريس في جامعة الملك سعود ثم رئيس قسم ثم وكيل كلية ثم عميد كلية ثم عضو في اللجنة التعليمية والبحث العلمي في مجلس الشورى لم أر أية إحصائيات ترصد أيا من مؤشرات التميز الجامعي في التدريس, رغم حرصي الشديد عليها, خصوصا عندما كنت أشارك في مراجعة تقارير الجامعات السنوية في المجلس. إن أبرز مؤشرات التميز الجامعي التعليمي هي نسبة الأستاذ/ الطالب، حداثة الخطط الدراسية، حداثة الكتب التدريسية، نسب الرسوب، نسب التسرب، نسب التخرج في المدة المقررة للدرجة العلمية، مستويات تخرج المتخرجين، حداثة وكفاية المعامل، تكلفة الطالب المتخرج والارتباط بين المخرجات وحاجة المجتمع وسوق العمل فيه. فما السر في تجاهل الجامعات ووزارة التعليم العالي مؤشرات التميز الجامعي التعليمي طوال عمر التعليم الجامعي في المملكة؟ ولعودة وزارة التعليم العالي وجامعاتنا إلى تحقيق التوازن في السعي إلى التميز الجامعي لا بد من التذكير ببعض المكاشفات الرقمية عن تعليمنا العالي وسوق العمل لدينا وتوجهنا الاقتصادي المستقبلي. فأما توجهنا الاقتصادي المستقبلي فقد حددته رؤية خادم الحرمين الشريفين للتحول إلى اقتصاد المعرفة المعتمد على البحث العلمي الذي لا يتحقق إلا بإكثار الباحثين العلميين والهندسيين والطبيين والتقنيين المبدعين. وقد تجاوبت جامعة الملك سعود مع رؤية القائد بتبنيها خطة لتحقيق ريادة عالمية من خلال سعيها إلى بناء مجتمع المعرفة بحلول عام 2030. أما إحصائيات الوافدين في التخصصات العلمية والطبية والهندسية والتقنية فتشير إلى نقص حاد في تلك التخصصات جميعا, والمملكة في حاجة ماسة للمتخرجين في هذه التخصصات لعشرات السنوات المقبلة. إن كلا من حاجة التنمية وسوق العمل للقوى البشرية في التخصصات العلمية والطبية والهندسية والتقنية وحاجة التحول إلى اقتصاد المعرفة المعتمدة كليا على كثرة الباحثين المبدعين كليهما لا يحتمل التسرب من هذه التخصصات, فالطاقات الاستيعابية للأقسام والكليات الطبية والهندسية والعلمية والتقنية قليلة بطبيعتها لارتباط عدد المقبولين فيها بسعات المعامل والورش ومرافق التدريب العملي, وهذا يجعل التسرب منها خسارة كبيرة للتنمية ولاقتصاد الوطن الراهن والمستقبلي. إن حساسية وأهمية عدد المتخرجين في هذه التخصصات للتنمية وللتحول لاقتصاد المعرفة تفرض على وزارة التعليم العالي وعلى كل الجامعات التوازن في السعي إلى التميز التعليمي مع التميز البحثي وإن كان لا بد من أولوية, فالأولوية يجب أن تكون للتميز التعليمي لأن نواتجه من المتخرجين المبدعين هي وقود (محرك) التميز البحثي وغيرها. إن التسرب يقوض فاعلية وكفاية تعليمنا العالي الداخلية والخارجية ويهدد أموالنا ووقت وجهد أبنائنا وجهد أعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا ويحطم آمالنا في التحول إلى اقتصاد المعرفة وسد حاجة سوق عملنا من المتخصصين العلميين والطبيين والهندسيين والتقنيين. إن للتسرب أسبابا كثيرة منها ما يتعلق بالطالب ومنها ما يتعلق بعضو هيئة التدريس أو عضو هيئة التدريب العملي ومنها ما يتعلق بالخطط الدراسية والمناهج ومنها ما يتعلق بلغة التدريس في جامعتنا في التخصصات العلمية والهندسية والطبية والتقنية وهي اللغة الإنجليزية . أما الطالب فنحن نعلم أن الطلاب الذين يقبلون في التخصصات العلمية والطبية والهندسية والتقنية هم أصحاب المعدلات الأعلى في اختبارات الثانوية والقدرات والتحصيلي, ولا تنقصهم الدافعية ولا يتسربون إلا مرغمين. أما ما يتصل بعضو هيئة التدريس والتدريب في الجامعات فنعلم أنه لا رقيب ولا حسيب عليه, فتعليمنا من الروضة حتى الدراسات العليا يفتقد المحاسبية والرقابة المحايدة, خصوصا في المرحلة الجامعية, وما رفع من شعارات في السنتين الماضيتين حول الجودة والنوعية وتعيين وكلاء لمديري بعض الجامعات ووكلاء لبعض عمداء الكليات لهذا الجانب لم يصل صداه بعد إلى قاعة المحاضرة وما زال في طور التوجهات والشعارات. وما يعيب هذا أن هذه المحاسبية داخلية وليست محايدة وخارجية. أما الخطط الدراسية فنعلم أن الكتب العلمية عموما لا يتجاوز عمرها خمس إلى عشر سنوات, وفي بعض التخصصات الهندسية كالحاسب لا يتجاوز عمر الكتاب خمس سنوات وبعضها أقل. إن بعض الخطط الدراسية لجامعاتنا في التخصصات العلمية والهندسية والطبية والتقنية لم تجدد منذ عشرات السنين. أما لغة التدريس في التخصصات الطبية والعلمية والهندسية والتقنية فهي اللغة الإنجليزية التي لا يتقنها الطالب, خصوصا إذا عرفنا ضعف تدريس اللغة الإنجليزية في التعليم العام وعدم كفاية السنة التحضيرية التي اخترعتها الجامعات أخيرا لعلاج ضعف الطلاب في اللغة الإنجليزية. إن صعوبة حاجز اللغة الإنجليزية, لغة الكتاب العلمي ولغة التدريس عندما يضاف إلى صعوبة المفاهيم العلمية حتى لو درست باللغة العربية تولدان مسببا حتميا للتسرب بنسب عالية في تعليمنا العالي. إن الورطة التي نواجهها كمجتمع يطمح إلى التحول إلى اقتصاد المعرفة ويطمح إلى توطين العلوم والتقنية في بلادنا من خلال سعودة الكوادر المشتغلة بها هي أن جامعتنا تلوذ بالصمت المريب عن هذا المسبب الرئيس للتسرب, وليت الأمر يتوقف على السكوت المريب بل يتعداه إلى أن بعض الجامعات تفاخر بأنها تدرس باللغة الإنجليزية متناسية أنها تقضي بتدريسها باللغة الإنجليزية على تميزها التعليمي وتسبب تسربا هائلا يبعدنا عن توطين العلوم ويؤخر تحولنا إلى اقتصاد المعرفة. إن غياب التميز التعليمي في جامعاتنا وتجاهل جامعاتنا ووزارة التعليم العالي لإبراز مؤشرات التميز التعليمي وحل المشكلات التي تعوق هذا التميز يهدر الاستثمارات الضخمة التي وفرتها حكومتنا للتعليم العالي ومؤسساته التعليمية والبحثية. بلغة الأرقام كيف نصل كمجتمع إلى التحول إلى اقتصاد المعرفة عام 1440هـ؟ وكيف ستحقق جامعة الملك سعود مجتمع المعرفة حسب استراتيجيتها عام 2030 ونحن نقبل 90 في المائة من خريجي الثانوية ونصفهم أدبي لا يدخلون أقسام الطب والعلوم والحاسب والتقنية الهندسية, ثم يتسرب 65 في المائة من المرحلة الجامعية, معظمهم إن لم يكن كلهم من الكليات العلمية التي تدرس باللغة الإنجليزية و70 إلى 80 في المائة ممن يتخرجون بتقدير مقبول وجيد. الإحصائيات ببساطة لا تقنع من يريد أن يتفاءل ما لم تتدارك الجامعات أمرها وتعيد التوازن إلى سعيها إلى التميز الجامعي. عندما يبتعث طالب سعودي إلى بريطانيا أو الولايات المتحدة أو غيرهما من الدول الناطقة بالإنجليزية لا تسمح الجامعات التي تحترم تميزها التعليمي ببدء الطالب دراسته الأكاديمية إلا بعد حصوله على درجة 500 في «التوفل» حتى لو قضى سنوات في دراسة اللغة الإنجليزية, أما في جامعاتنا فالنجاح في السنة التحضيرية يكفي! وهذا مكمن الخطر والداء على تعليمنا العالي وتنميتنا واقتصادنا. إن كتاب الطب أو الهندسة الذي يدرس في أمريكا هو الكتاب نفسه المستعمل في جامعاتنا, والطالب السعودي المبتعث والطالب الدارس في الداخل كلاهما متخرجان من نظامنا التعليمي العام نفسه ولكن ليس لدى الطالبين المستوى نفسه من اللغة الإنجليزية عند بدء الدراسة الجامعية. إن الأمر لا يحتاج إلى كثير من الفلسفة والكهنوت فإما أن ندرس جميع الطلاب والطالبات اللغة الإنجليزية حتى يصلوا إلى مستوى لغة الكتاب العلمي والطبي والهندسي وإما ترجمة الكتاب العلمي والطبي والهندسي إلى لغة الطالب والأستاذ والمجتمع.
إنشرها