فجوة الإسكان وأصل الداء
قطاع الإسكان هو من أهم القطاعات الاقتصادية في أي مجتمع، وأهميته تنبع من ارتباطه بحاجة أساسية دائمة ومستمرة من حاجات الناس. بل إن حجمها أخذ ينمو مع النمو السكاني العالي الذي أصبح ظاهرة هذا الزمان. ويكتسب هذا القطاع أهمية مضاعفة لأنه يعمل كصمام أمان للاقتصاد يخفف من تقلباته في الدورات الاقتصادية. ففي أوقات الانكماش لا ينخفض الطلب عليه بحدة، وفي أوقات الرواج ينمو باعتدال نسبي مقارنة بغيره من القطاعات الاقتصادية الأخرى.
لكن حتى يقوم قطاع الإسكان بهذه الوظيفة الاستقرارية في الاقتصاد يجب أن تكون له مساهمة معقولة في تشكيل الناتج الوطني. وهذا بدوره يتطلب أن يكون قطاع الإسكان خاضعا لمنظومة متكاملة ومتطورة من الأنظمة والحوافز والضوابط التي تسمح له بالعمل بدرجة عالية من الكفاءة الاقتصادية التي تسد أي ثغرة بين مستوى الطلب والعرض الكلي. والحقيقة التي بات الكل يدركها ويتكلم عنها اليوم هي أن هذا القطاع ما زال متخلفا وبعيدا عن القيام بوظيفته المأمولة، وأنه في حاجة لمنظومة متكاملة من الإجراءات التنظيمية التطويرية.
ومن يتأمل في أسباب هذا التراجع الكبير في وضع قطاع الإسكان، يجد أن مشكلاته تعود في أصلها لسبب واحد، وهو اتخاذ تملك الأراضي عن طريق المنح وسيلة سهلة وسريعة للإثراء بأقل جهد. وتفاقم الحال في العقود الأربعة الأخيرة مع كثرة الطامعين وانضمام صغارهم لكبرائهم، ما أدى إلى ضياع مساحات شاسعة كان يجب أن توجه لسد حاجات الناس مع نمو السكان. وكان من نتائج ذلك ندرة الأراضي غير المملوكة في المدن وما حولها ليس فقط لغرض الإسكان, بل حتى للخدمات الضرورية كالخدمات التعليمية والصحية وخدمات المنافع العامة. هذا الخلل الأولي الذي لم يدرك مسببوه آثاره التراكمية الخطيرة مع الزمن، أدى لكل هذا التشويه والخلل الذي انتهى إليه حال هذا القطاع. فأضحت الأراضي نادرة وغلت أسعارها حتى غدت تكلفة الأرض تستغرق ما بين 40 إلى 50 في المائة من تكلفة إنشاء المساكن بدلا من أن تشكل نسبة 10 إلى 15 في المائة من هذه التكاليف كما هو الحال في بقية بلاد الدنيا. وأعاق هذا الوضع انتشار شركات تطوير عقاري محترفة شاملة توفر للناس مساكن ذات جودة عالية بتكاليف نسبية مقبولة، وتحافظ مع الصيانة المنظمة على جودتها وعلى قيمتها مع الزمن، فيستطيع ملاكها حينئذ اتخاذها ضمانات للحصول على تمويل طويل الأجل . وبدلا من ذلك أصبح بناء المساكن خاضعا للجهود الفردية العشوائية متدنية الجودة عالية التكلفة سريعة التهالك فتشوه الشكل العام لمدننا، وأصبحت عنوانا يقرأ منه بقية القصة.
في ندوة تطوير الأراضي الحكومية المخصصة للسكن التي عقدت في الرياض أخيرا، أكد مسؤولو وزارة الشؤون البلدية والقروية أن جهود تطوير هذه الأراضي لا تتوقف على توفيرها وتخطيطها فحسب، وإنما تمتد إلى تزويدها بالخدمات الأساسية! وهذا جميل ويقع في صلب وظيفة الأمانات والبلديات، لكن أين هي الأراضي القريبة من الخدمات والصالحة للسكن؟ أما أمين منطقة الرياض فقد كان أكثر واقعية عندما أقر بأن كثيرا من مخططات المنح تقع في مواقع بعيدة عن المدن تفتقر للخدمات الأساسية ما يجعلها غير قابلة للبناء فأصبحت عبئا على البلديات، فانتقلت ملكيتها من المستحقين الممنوحين إلي أيدي المضاربين!
ومع حاجتنا – كما قال محافظ الهيئة العامة للإسكان - لقاعدة معلومات إسكانية لتنظيم منح القروض والأراضي، إلا أننا في حاجة لتنظيم ندوات لدراسة كيفية استرجاع الأراضي الشاسعة ممن ليسوا في حاجة إليها، وبحاجة لترتيبات توقف منحها لمن يتاجرون بها. ولذا دعا أمين منطقة الرياض إلى وقفة حازمة وجادة وواقعية لإعادة صيغة توزيع أراضي المنح بوضع رؤية جديدة تضمن تحقيق الغرض من هذه المنح وهو تمكين المواطنين من بناء مساكنهم، لا جعلها مجالا للإثراء أو الحجز أو المضاربة بيد مرتزقة العقار وطفيلييه الذين عاثوا في البلاد فسادا وآذوا أهلها.
إذا أردنا وضع حلول حقيقية وجادة لمشكلاتنا الاقتصادية علينا تسمية الأشياء بأسمائها والتوجه لصلب الإشكال بدلا من إضاعة الجهود والأوقات والأموال في ندوات تلتف حول المشكلات ولا تمس جوهرها.