معادلة عصرنا: تقدم علمي وتخلف استراتيجي

بعد قرون وعقود من الزمان التزم فيها الاستراتيجيون بعدة موروثات، بدأت مرحلة تجريبية في عالم الاستراتيجية قوامها البحث في الموضوعات الفرعية والدقيقة، التي أسفرت عن نماذج تهتم بقطاع محدد.
ونظرا لقلة الاستثمارات المخصصة للأبحاث الاستراتيجية ومعاناة هذه الأبحاث من عقدة تسلط الأقدمين عليهم، حيث توقف التفكير في إعادة صياغة منظومة المفاهيم التي ورثناها عنهم، فإن النتيجة هي عدم حدوث تطورات تذكر أو فتوح ملموسة في مجال الاستراتيجية مقارنة بالمجالات الأخرى، وهذا هو السبب في أننا غير مؤهلين لصياغة استراتيجيات جديدة للتعامل مع سبل المستجدات والمشكلات التي تنمو وتترابط في عالمنا المعاصر. ونظرا لأن التقدم الهائل في مجال العلوم لم يوازه أو يواكبه تطور مماثل في المجال الاستراتيجي، فإننا نخاطر فعلا بكل المكتسبات التي قدمها العلماء.
فمنذ عصر النهضة وبداية الأخذ بالعلم سبيلا إلى إضاءة كهوف المعرفة قام العلماء والباحثون والأكاديميون بفحص وبحث عديد من المجالات الضيقة والدقيقة وبناء على ذلك نجحوا في تأسيس أطر وقواعد ونظريات ومعادلات أسهمت في تجديد الحلول لكل مشكلة وبدقة بالغة. وقد بلغت أعداد هذه المحاولات أرقاما كبيرة, فضلا عن تنوعها وثرائها بالمعرفة نظريا وعمليا. أما في مجال الاستراتيجية لم تحدث أبدا نهضة فكرية ولذلك لم يتح للعاملين في مجال الاستراتيجية هذه الفرصة ولم يتحقق لهم ذلك الثراء في النماذج واكتفوا بنقل نماذجهم حرفيا عن الموروثات المليئة بالاستراتيجيات الخطيرة والضيقة. ولهذا فإن نتائج استخدامها وتفعيلها أدى بنا إلى شن حروب لا مبرر لها وتدمير البيئة وإشعال نار المنافسة إلى درجة السخونة المخيفة.
ونتوقف قليلا أمام ما قاله الزعيم نيلسون مانديلا وهو يدعو إلى نبذ استراتيجيات الماضي لتحل محلها استراتيجيات جديدة تعمل من أجل التقريب بين الشعوب والسلام. يقول مانديلا:
«إن الاستخدام المفرط للقوة كان دائما السمة المميزة لسلوك الزعماء في عصرنا والعصور السابقة، وقد أدت استراتيجياتهم دائما إلى الحرب وتكريس العنف والعنصرية والقهر والقمع وإفقار شعوب بأكملها، ومع تنامي القوة العسكرية والإعلامية، فإن الخطر يصبح أشد، حيث تبرر وسائل الإعلام التصرفات الطائشة. ومع كل ما حققته البشرية من نجاح في سبر أغوار العلوم، فقد حان الوقت للحديث عن المتناقضات التي سلبتنا الكثير، عن الحرب والسلام عن العنف واللاعنف وعن العنصرية وكرامة الإنسان وعن الحرية وحقوق الإنسان والفقر والتحرر من العوز.
لقد آن الأوان لأن يقف العالم موحدا ليتفهم الجميع كيفية الوصول إلى عالم موحد يستطيع أن يواجه تحدياته الكبيرة من تغير بيئي إلى فقر وجوع وتدمير من غضب الطبيعة».
ويؤكد المهتمون بإحداث التغيرات الاستراتيجية أهمية تحرير عقول القادة ومساعديهم من موروثات يظنون أنها آخر المطاف. ويكفي أن نلقي نظرة فاحصة على ما وقع في السنوات الـ 20 الماضية. فالولايات المتحدة أكبر دولة تملك ناصية القوة والعلم ألقت بجيوشها في حروب لا أمل لها في ربحها في العراق وأفغانستان. وهي تملأ العالم صياحا بوجود قوى نووية صاعدة في كوريا الشمالية وإيران، وخياراتها الاستراتيجية تدفعها إلى السكوت تماما عن قنابل إسرائيل والهند النووية، وهو خلل سيبقي الصراع محتدما، وهي تواجه أوروبا جديدة، بعض عناصر منها على استعداد لتقبل استراتيجيات أمريكا وتمضي وراءها في حلف شمال الأطلنطي - وهو حلف ولد في مناخ استراتيجي مختلف ويوشك على الانهيار بسبب أفغانستان - ولكن معظم الأوروبيين يريدون نحت مكانة لهم في ظل النظام العالمي. وتواجه الولايات المتحدة تحديا جديدا لم تحدد له استراتيجية نهائية بعد وهو ظهور الصين والهند على المسرح الاقتصادي في تمهيد واضح للصعود على قمة المسرح السياسي.
ونتساءل: ما مغزى ذلك كله؟
** هل هو تطور عشوائي أم هو أمر محكوم وتحت السيطرة ؟
** هل هناك نموذج لتفسير ما يحدث؟
** ما المطلوب من زعماء العالم ومن الأفراد لدفع العالم إلى اتجاه إيجابي؟
** ما السبيل لحياة يرفرف عليها السلام وينعم فيها البشر بالرخاء؟
** متى تأتي اللحظة التي يتوقف فيها الجميع لإحداث التغيير في الفكر، الذي وقر في ذهن الكثيرين أنه الحل الوحيد؟
** هل هناك عوامل ضغط ترغم الأقوياء على التعقل؟
إن ما شهدناه منذ ثلاثة عقود عن صراع الحضارات وحتمية الحرب كان ترويجا لصناعة الأسلحة ونعتقد أن العالم المُثقل بمشكلات الإنسان ينفر من ذلك ويتطلع إلى الاستراتيجيات الجديدة التي تنشد الحرية والسلام والرخاء، كما يراه الجميع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي