عودة إلى موضوع الهروب من النفط وتنويع مصادر الدخل

- منذ نحو أسبوعين نشرت مجلة «ميد» المتخصصة في الشؤون الاقتصادية للشرق الأوسط ملحقا خاصا عن «اسكتلندا في الخليج»، الذي يعد مادة تسويقية لاسكتلندا. على خلاف المواد التسويقية التي تنشرها الدول المختلفة التي توضح فيها الدول منتجاتها وشركاتها. ركز الملحق على «الخدمات» التي يمكن أن تقدمها اسكتلندا لدول الخليج. حتى الآن والأمر منطقي ومعقول، ولكن عزيزي القارئ، تهيأ للمفاجأة.. على رأس الخدمات التي تسوق لها اسكتلندا في الخليج «الخدمات النفطية»، التي تشمل العقول والخبرات والتكنولوجيا الاسكتلندية! ليس هذا فحسب، بل يرى الاسكتلنديون أن بعض مدنهم أصبحت من عواصم النفط العالمية، خاصة مدينة «أبردين»! ولعل أفضل مكان لدراسة «الطاقة والقانون الدولي» هو مركز الطاقة في جامعة دندي الاسكتلندية، وتعد دراسات اقتصاديات الطاقة فيها أحسن من غيرها حالياً (لأجل الشفافية فقط أذكر أنني عضو شرف في المركز، كما أنني منسق «منتدى قوانين الطاقة والنفط والغاز» المنبثق عن المركز الذي يضم نحو 600 متخصص في مجال الطاقة من شتى أنحاء العالم ونحو 400 طالب دراسات عليا في مجال الطاقة).
- منذ نحو ثلاثة أعوام، قرر كونجرس ولاية وايومينغ الأمريكية، وهي ولاية صغيرة منتجة للنفط تقع شمال غربي ولاية كولورادو، تطوير الأقسام المتخصصة بالطاقة، خاصة النفط والغاز، كما قام بتمويل خمسة كراسي بحثية لبحوث النفط والغاز. لماذا هذا الاهتمام؟ أليس من الأجدى أن تنوع الولاية مصادر دخلها؟ أليس من الأجدى إنفاق أموال الكراسي البحثية على تقنيات جديدة؟
- قبل ذلك قامت ولاية ألبرتا الكندية بعمل مماثل، كما دعمت المركز الكندي لبحوث الطاقة في الولاية بملايين الدولارات لتوظيف أفضل خبراء الطاقة من جميع أنحاء العالم. وفي تلك الفترة قامت جامعة تكساس بتوظيف طاقم كامل من جامعة رايس وشكلت منهم مركزا بحثيا تجاريا في شؤون الطاقة. الأمر نفسه يتكرر الآن في البرازيل وأستراليا، علما أن لأستراليا باعاً طويلا في هذا المجال.
- لقد اشتهرت ولاية تكساس تاريخيا بإنتاج النفط، ولكن إنتاج النفط انخفض فيها بشكل كبير في السنوات الأخيرة. رغم ذلك فإن مدن تكساس مازالت تصدّر الخبرات وتكنولوجيا النفط للعالم كله بسبب التركيز على بناء الخبرات والتكنولوجيا في مجال النفط خلال العقود الماضية. لم تهرب تكساس من النفط، بل تبنته وأصبحت جامعاتها ومراكز بحوثها مصدر الخبرات والتكنولوجيا في مجال النفط. ثم جاء اليوم الذي أثمر فيه الاستثمار في الخبرات والتكنولوجيا بشكل أشبه بالأحلام، خاصة في العامين الأخيرين: استخراج الغاز من حجر السجيل، الأمر الذي رفع احتياطيات الغاز في الولايات المتحدة إلى مستويات تاريخية. هذا التقدم التكنولوجي غيّر وجه صناعة الغاز في العالم، وأصبح خبراء تكساس وتكنولوجيا تكساس المسيطرين عالميا على هذه الصناعة الجديدة. هذا التطور التكنولوجي بدأ يهدد قطر، أكبر مصدر للغاز المسال في العالم، لأن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى الغاز القطري.
- لا شك أن إنتاج النفط هو الشيء المشترك بين تكساس ووايومينج وألبرتا، وإلى حد ما اسكتلندا، ولكن ما الذي جعل معهد النفط الفرنسي من أشهر المعاهد في العالم، وفرنسا ليس لديها أي نفط؟ ولماذا تستعين دول الخليج بخبراء النفط الفرنسيين؟ السر ليس في «النفط» إنما في «المعرفة»!

الهروب من النفط
ذكرت عدة مرات في الماضي أن دول الخليج تحتاج إلى استراتيجية جديدة تختلف عن الاستراتيجية الحالية، وكان آخرها في مقال نشر منذ عدة شهور بعنوان «لماذا تهربون من النفط؟».
لماذا ما زالت دول الخليج تستورد الخبرات والتكنولوجيا حتى من اسكتلندا، مع أن دول الخليج من أكبر الدول النفطية في العالم؟ ما السر الذي جعل اسكتلندا تصدّر الخبرات والتكنولوجيا النفطية لدول الخليج؟ لماذا أغلب القيادات النفطية في العالم الثالث متخرجة من مركز الطاقة في جامعة «دندي» الإسكتلندية؟ وكيف تحولت «أبردين» إلى عاصمة نفطية عالمية ووصلت مرتبة في عالم النفط لم تبلغها أي مدينة خليجية؟
هل ولايتا ألبرتا ووايومينج غبيتان في تبني النفط والتركيز على بناء خبرات وتكنولوجيا النفط؟ لماذا لم تحاول هاتان الولايتان تنويع مصادر الدخل؟ ولماذا لم يكن تنويع الدخل شغلهما الشاغل، علما بأن أي واحدة منهما أكبر من بعض الدول الخليجية؟ أليس النفط مصدرا ناضبا؟
لماذا تحاول دول الخليج الهروب من النفط، وهو الذي جعلها تصل إلى ما وصلت إليه من ازدهار اقتصادي وعمراني؟ لماذا ما زالت دول الخليج مستوردة لخبرات وتكنولوجيا النفط حتى يومنا هذا؟

الحاجة لاستراتيجية جديدة
كما ذكر في مقالات سابقة فإن إنقاذ اقتصادات دول الخليج من «براثن» النفط عن طريق تنويع الاقتصاد وإيجاد مصادر بديلة للدخل هو ضرب من الخيال، خاصة أن صناعة البتروكيماويات ـ التي تُصنّف ضمن القطاع الصناعي غير النفطي ـ لا يمكن أن تقوم لها قائمة لولا قطاع النفط، وأن «صناعة العقار» لا يمكن أن تعد تنويعا للدخل، خاصة إذا أصبحت هذه الصناعة هي المصدر الأساس للدخل كما هي الحال في دبي، أو أصبحت تُمّول بشكل مباشر أو غير مباشر بأموال النفط كما هي الحال في العواصم الخليجية. أما الذين يراهنون على أمور أخرى مثل صناعة العلوم الأحيائية والجينات لتنويع مصادر الدخل، فقد تناسوا درسا تاريخيا وهو أن سبب تحول دمشق وبغداد إلى عواصم عالمية لم يكن بسبب «زيارة» الخبراء والعلماء الأجانب لها ليومين أو أسبوعين، إنما بسبب تحول هؤلاء العلماء إلى «دمشقيين» و»بغداديين» واحتضان هاتين المدينتين لهما.
الحقيقة أنه مهما حاولت دول الخليج تنويع مصادر دخلها فإن النفط، بسبب حجم احتياطياته وأهميته العالمية، سيظل يلعب دورا رئيسا في اقتصاداتها. ومهما حاولت هذه الدول تنويع مصادر دخلها، فإن العالم كله سيظل ينظر إليها على أنها دول نفطية. ومهما حاولت التخلص من «سمعة» النفط فإنها تدرك أن مصدر «القوة» و«الاحترام» هو «النفط». لهذا فإنه بدلا من الهروب من النفط، فإن الأفضل لهذه الدول هو احتضانه وتبنيه لتعزيز قوتها من جهة، وبناء اقتصاد معرفي مرتبط بالطاقة بشكل عام وبالنفط بشكل خاص من جهة أخرى. أليس من المخجل، وبعد اكتشاف النفط بأكثر من 70 عاما في الخليج، أن يكون حجة الاستعانة بشركات النفط الأجنبية هي الحصول على «المعرفة» و«التكنولوجيا»؟ إذا فشلت دول الخليج في بناء خبرات نفطية وتطوير تكنولوجيا النفط، رغم اعتمادها عليه في كل شيء خلال الـ 70 عاما الماضية، ما الذي سيجعل مصادر الدخل الأخرى والتقنيات الجديدة أكثر نجاحا؟ إذا فشلت شركات النفط الوطنية، رغم عمرها المديد وخبراتها الكبيرة، في وقف الاستعانة بالخبرات والتكنولوجيا الأجنبية، ما الذي يجعل البعض يعتقد أن شركات جديدة في مجالات جديدة ستكون أكثر نجاحا في تنويع الدخل وتحقيق تنمية مستدامة؟ لا شك أن دول الخليج ستحاول جاهدة تنويع مصادر الدخل ومحاولة التخفيف من دور النفط في الاقتصاد، لكن هذا لا يعني أنه يجب الهروب من النفط. إن على دول الخليج أن تتبنى استراتيجية محورها تبني الطاقة والنفط كمصدر أساس للدخل، وبناء الخبرات وتطوير التكنولوجيا النفطية، ثم تسويق ذلك كله في شتى أنحاء العالم. إن تكنولوجيا الطاقة بشكل عام والنفط بشكل خاص متقدمة ومعقدة للغاية، الأمر الذي يضمن وجود اقتصاد معرفي، ويؤدي إلى تنويع مصادر الدخل، ويسهم في تحقيق تنمية مستدامة، لأن هذه التكنولوجيا مترابطة بكثير من الصناعات الأخرى التي تنمو مع نمو هذه الصناعة، ولأن هذه التكنولوجيا والصناعات المرتبطة بها ستسهم في بناء الموارد البشرية بشكل يجعلها مرغوبة في شتى أنحاء العالم.
إن تبني هذا الخيار الاستراتيجي يعني أن الجامعات الخليجية ومراكز البحوث فيها ستقوم بالدور نفسه الذي وضع مدن تكساس واسكتلندا وألبرتا ووايومينج على خريطة النفط العالمية. هذا يعني الارتقاء بمستوى التعليم وتخريج خبرات نفطية عالمية، يمكنها تطوير تكنولوجيا النفط وتسويقها عالميا. بهذه الطريقة تصبح دول الخليج مصدرة للنفط وخبراء النفط وتكنولوجيا النفط، بدلا من أن تكون مستوردة للخبرات والتكنولوجيا.
هذه الاستراتيجية المقترحة تقتضي أن تصبح تكنولوجيا الطاقة المصنعة محليا سلعة عالمية مثلها مثل النفط، كما تقتضي أن يكون الخبراء الوطنيون خبراء عالميين يسهمون في بناء صناعة الطاقة في شتى أنحاء العالم. إن هذه الاستراتيجية أجدى بكثير من البدائل الأخرى التي يقال إنها ضرورية لتنويع الدخل، التي تتطلب بنية تحتية جديدة واستيراد شبه كامل للخبرات والتكنولوجيا الأجنبية.
باختصار، حتى لو كانت استراتيجية دول الخليج هي تنويع مصادر الدخل بعيدا عن النفط، إلا أن نجاح هذه الاستراتيجية يتطلب تبني صناعة النفط، وتصدير تكنولوجيا وخبراء النفط بدلا من استيرادهما.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي