مدلولات معركة انتخاب مدير «ليونسكو»

في عام 1982 ترجمت كتاب ''تدفق المعلومات بين الدول المتقدمة والنامية'' للكاتب هندي هو مانكيكار. كان الكتاب جزءا من توجه تبنته ''اليونسكو'' لمحاربة التسلط الأمريكي على وسائل الإعلام العالمية ونزعتها الدائمة لإذابة الشخصية الوطنية وإحلال النموذج الأمريكي محلها بغية نشر ثقافة الاستهلاك التي تنعش الاقتصاد الأمريكي.
هاجت الولايات المتحدة وماجت وتزعمت حملة صارخة لطرد أحمد مختار إمبو مدير ''اليونسكو'' السنغالي، وانطلقت أقلام العم سام تتحدث عن الخطأ في اختيار إفريقي ليرأس منظمة في حجم ''اليونسكو''.
وجاء مايور ومن بعده الياباني الذي عينت اليابان له 30 مساعدا لإقرارها بعجزه الكامل، ومع ذلك استمر لأن اليابان قادرة على التمويل، خاصة أن الولايات المتحدة أعلنت منذ الثمانينيات أنها لن تسهم في تمويل المنظمة إذا لم تحقق سياسات على هواها. ولأنها تسهم - في ذلك الوقت – بـ 55 في المائة فقد خشي الجميع انهيار ''اليونسكو'' إلى الأبد.
ولأن للتاريخ عادة مزمنة في تكرار نفسه، أطلت الولايات المتحدة بوجهها الاستعماري القبيح على الانتخابات الأخيرة، التي اشترك فيها وزير الثقافة المصري فاروق حسني في مواجهة مرشحات من بلغاريا والنمسا والإكوادور وغيرهم. وفي الجولة الأولى حقق فاروق حسني 22 صوتا من 58 صوتا هم أعداد من لهم حق التصويت، ولكي يفوز المرشح ينبغي أن يحقق أغلبية ولو بصوت واحد. وبدأت المتابعة الإعلامية تنقل ترحيب فرنسا وإيطاليا بحسني, ولكننا منذ البداية كنا متأكدين من خسارة وزير الثقافة المصري الذي خاض معركة باسلة رائعة. ولكن الولايات المتحدة بكل ادعاءاتها بصداقة مصر وبكل وعود أوباما بدعم فاروق حسني التي بذلها للرئيس مبارك، إلا أن اللوبي الصهيوني أصبح ـ دون شك - الموجه الأول للسياسة الأمريكية سواء كان القابع في البيت الأبيض جمهوريا أو ديمقراطيا . تحقق التعادل 29 - 29 وكان لا بد من جولة أخيرة ترجيحية، فغير اثنان من مؤيدي فاروق حسني اختيارهما، وأعطيا صوتيهما للمرشحة البلغارية. وكانت النمساوية قد تنازلت لها عن 11 صوتا، وعندما انضموا إلى البلغارية وصل عدد أصواتها إلى 24. هنا لم يكن أدنى مجال للشك في أن اللعبة محكمة وأن فاروق حسني بكل ثقله الثقافي أصبح خارج الدائرة.
هنا يتساءل المتحدثون عن ضرورة تجنب صدام الحضارات عما جرى بالضبط، هل هو أي شيء إلا الرفض للجنوب الذي تمثل في إمبو في الثمانينيات وفاروق حسني في الألفية الثالثة؟
ومن هي المرشحة البلغارية، وما قيمة بلغاريا على خريطة الثقافة العالمية في مواجهة مصر أحد أضلاع الثقافة العالمية؟ فهي أكبر مُتحف أثري في العالم وتصدر 90 في المائة من الكتب الصادرة بالعربية و80 في المائة من حركة الموسيقى والغناء إلى جانب مكانتها في الفنون التشكيلية التي يعد فاروق حسني رقما مهما فيها.
ويتحدث خبراء الثقافة عن أضلاع الثقافة الأربعة وهي: الصين التي تمثل الشرق الآسيوي والولايات المتحدة التي تمثل الغرب بثقافاته المادية الحديثة وفرنسا التي تمثل الشمال الأوروبي في الأدب والفنون والتفتح والنور ومصر التي تمثل الضلع الجنوبي العربي والإفريقي. لكن عدة اعتبارات أهم بكثير من الموضوعية كما أثبتت معركة اليونسكو - وأسميها معركة - لأن أطرافها خاصة القوى الكبرى رضخت للقوى اليهودية في العالم، ورغم أن فاروق حسني قدم القرابين وشرع في تجديد مقابر ومعابد اليهود في مصر لأن الصهاينة أعتى وأكثر شرا وضراوة من ذلك. فقد كذبوا على العالم ويخشون يقظة العالم على حقيقة سرقتهم لأرض فلسطين، وقد أوهموا العالم بالارتباط بين الإرهاب وأي عربي أو مسلم وصدقهم السذج والبلهاء الذين تحملهم أدوات اليهود الإعلامية وضغوطهم السياسية إلى سدة الحكم. وألزموا العالم بمعاقبة كل من يتجرأ عليهم بتهمة معاداة السامية وهي التهمة التي أشهروها في وجه فاروق حسني، ولا ندري لماذا لا يستنفر العالم ضد قاتلي المسلمين وضد جحافل المستعمرين الذين قتلوا وسرقوا لمئات الأعوام دون تقويض أو لوم أو عقاب. لقد نسي كل من خضع للتوجه الأمريكي النابع من الضغط الإسرائيلي أن اليهود طُردوا عبر التاريخ من سبع دول هي روسيا (ألكساندر الثاني) وإنجلترا (هنري الثامن) وإسبانيا (إيزابيلا وفرديناند) وألمانيا (هتلر) وفرنسا (لويس الرابع عشر) ومصر (مرات عديدة). والسبب أنهم دائما خناجر في ظهور الدول التي تأويهم.
و''اليونسكو'' منظمة قادرة على نبش التاريخ فهم يقمعون كل شيء في المهد.
وعزاء فاروق حسني هو ما حصل عليه من أصوات، وما أداه من جهد في الحملة الشرسة، والأهم أنه كشف الشعارات المضللة عن التآخي والصداقة والشفافية وكلها واجهات لتحقيق مصالح الغرب. وشكرا لحملته التي كشفت لكثير من الغافلين أن الكراهية متأصلة في نفوس الغرب مصداقا لمقولة الشاعر الإنجليزي الاستعماري رديارد كبلينج شاعر الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر: ''إن الشرق شرق والغرب غرب وأبدا لن يتم التلاقي''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي