أن تكون رجلا «بروفيشنال»
يخطئ الكثيرون في معنى كلمة ''بروفيشنال'' التي بدأت تستخدم بشكل متزايد في لغة الأعمال للدلالة على ذلك الشخص العملي في كلامه، الرسمي في ثيابه، المحافظ على مواعيده والتزاماته، الأنيق فيما يكتبه ضمن عمله، والمميز في أفكاره واستنتاجاته.
كل هذه الصفات مهمة لتطور قطاع الأعمال في بلادنا، وخاصة أننا نعاني كثيرا من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون ويرمون الكلام جزافا ولهم في كل يوم صنعة حسبما تأتي به الرياح.
لكن الشخص البروفيشنال (أو المهني في أقرب ترجمة عربية) لا يقتصر تميزه على ذلك بل هو شخص يلتزم بـ ''أصول المهنة'' ويؤمن بها ويحملها على عاتقه ويعتبر حمايتها والالتزام بها جزءا من مبادئه. مثل هذا الالتزام هو ما يحافظ على مهنة معينة ويسهم في تطويرها ويعطي المرتبطين بها مكانتهم في المجتمع، مهما كانت تلك المهنة.
تلك المشكلة يعانيها كثير من المهن في العالم العربي لأنه لا توجد لها مؤسسات أو نقابات تجمع أبناء تلك المهنة، وتحميهم، وتحمي مهنتهم ممن يسيء إليها من أبنائها، ولعل البديل عن ذلك هو إقامة المؤتمرات والندوات التي تعمل على تقريب أبناء المهنة، وإيجاد ميثاق شرف مكتوب يحدد تعريف مهنتهم، وقيمها الأساسية، وما يلتزم به الإنسان المهني أو الـ ''بروفيشنال'' من أبناء تلك المهنة، والآفاق التي يطمح إليها أبناء تلك المهنة في خدمة مجتمعهم، والرسالة التي يحملونها، وغير ذلك.
ميثاق الشرف عادة يكون عبارة عن وثيقة مختصرة وعمومية يسهل حفظها، ولكن أي مهنة تحتاج أيضا لكتاب تفصيلي يناقش القضايا الجزئية والفرعية التي تشرح تلك الوثيقة العمومية، وهذا الكتاب يمثل عادة أهم وجهات النظر في أي قضية ذات علاقة بالمهنة، ثم يأتي دور الإعلام المتخصص ليتابع التطورات ويناقش المشكلات ويجمع الآراء التي تشرح في النهاية ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله على أي شخص ينتمي لمهنة معينة، بحيث يمكن لمجموع العاملين في تلك المهنة الارتفاع بمستواها وتحقيق الأهداف المرجوة منهم لصالح وطنهم ورسالتهم.
هذا الأمر مفقود تماما في العالم العربي، وباستثناء الأطباء الذين يستفيدون عادة من القيم المهنية العالمية التي تتضمنها مهنة الطب، فإن باقي القطاعات والمهن تقف مكتوفة الأيدي دون تفاصيل واضحة، خاصة أن العالم النامي واحتياجاته ومسؤوليات المهنيين فيه تختلف عن تلك التي يحملها المهنيون في العالم المتقدم والرأسمالي الحر.
هناك طبعا قيم عامة يلتزم بها كل المهنيين، وهي قيم إنسانية عالمية لا يمكن لأحد الجدل حولها، ومنها الصدق في التعامل، والالتزام بالمواعيد، والبعد عن الفساد، وعدم استغلال المهنة بما يسيء للآخرين، وانتشار هذه القيم في المواثيق المهنية أسهم في انتشارها بشكل ملحوظ في المجتمع الغربي وغيابها بشكل ملحوظ في العالم العربي بكل أسف.
إنني شخصيا أعتقد أنه حان الأوان لبذل كل الجهود من خلال الجمعيات والمؤسسات اللاربحية والأقسام الأكاديمية في الجامعات للعمل على إيجاد مثل هذه المواثيق وبناء ثقافة الارتباط بالمهنة وقيم المهنة والكفاح لأجل إعلاء شأن المهنة. إنني كإعلامي أنظر مثلا لجمعيات الصحافيين العربية ومنها جمعية الصحفيين السعوديين وأجد أن ما أنجزته في هذا المجال لا يكاد يذكر ولا يتجاوز الكلمات الإنشائية العريضة التي لا يلتزم بها أحد.
بعض المهن ليس لها حتى تعريف مهني، فمثلا مهنة التسويق أو العلاقات العامة، كل شخص يستطيع الادعاء أنه رجل تسويق بما في ذلك مندوب المبيعات المنزلية، فضلا عن أن يكون هناك وضوح في القيم المهنية للعاملين في مجال التسويق.
بالمقابل أدعو الجميع للتأمل في التجربة البريطانية التي عملت بكل ذكاء على إيجاد الأطر المهنية، حتى صار للخادم البريطاني Butler أو سائق التاكسي أو سائس الخيل أطر مهنية متكاملة أسهمت في رفع مستوى البريطانيين من أبناء هذه المهن عن غيرهم وصاروا مرغوبين في كل أنحاء العالم في هذه المجالات وغيرها.
باختصار أتمنى أن يصبح كل شخص مهنيا أو ''بروفيشنال'' وأؤمن بعمق (والحجج كثيرة على ذلك) بأن تطور المفاهيم المهنية الخاصة بكل مهنة سيسهم في نهضة المجتمع ونهضة مختلف قطاعاته وتطوير مستوى الالتزام بالقيم والأخلاق فيه والتقليل من الفساد الإداري والوظيفي ورفع مستوى الإنتاجية والجودة. هذه الحاجة الاجتماعية المهمة هي مسؤولية تتحملها الأقسام الأكاديمية أولا ثم الرابطات والجمعيات المهنية ثانيا ثم قادة كل مهنة ثالثا.
ولعل وعسى...!