هل استوقفتنا أرقام تحويلات العاملين في المملكة عام 2008م؟ وما دلالاتها؟
تابعنا أخيرا صدور مؤشرات أرقام تحويلات العاملين في المملكة في عام 2008م وكيف أنها بلغت نحو 78.5 مليار ريال، مقارنة بنحو 60 مليار ريال في عام 2007م، أي بمعدل نمو سنوي تعدى 33 في المائة، وهو أعلى معدل نمو تشهده أرقام التحويلات على مدى السنوات الـ 20 الماضية. بهذه الأرقام شكلت التحويلات نحو 18 في المائة من الناتج المحلي للقطاع الخاص، بعد أن كانت أقل من 15 في المائة من ناتج القطاع الخاص في عام 2007م.
لا بد أن تستوقفنا هذه الأرقام، وخاصة أن عالمنا – وفي العام نفسه – وقع في فخ أزمة شاملة، طالت أول ما طالت العاملين، ولهذا كان يفترض أن يحدث العكس، أي تتراجع أرقام التحويلات لتتماشى مع المؤشرات العالمية. بل إن عام 2008 شهد خلال نصفه الأول ارتفاعاً جنونياً في أسعار السلع والإيجارات، ولم تتراجع أسعارها بشكل ملموس إلا مع مطلع 2009م، ومن ثم كان يفترض أن يؤثر ذلك بالسلب في مدخرات ومن ثم تحويلات الوافدين. كما أنه وفقاً لتقديرات البنك الدولي، حدث تراجع في قيمة التحويلات عالمياً تراوح بين 3 و16 مليار دولار، أي بنحو 20 في المائة مقارنة بعام 2007م، علماً بأن قيمة التحويلات العالمية بلغت نحو 305 مليارات دولار بنهاية 2008م، والتي يتوقع تواصل انخفاضها إلى نحو 280 مليار دولار بنهاية 2009م.
إذاً، أرقام التحويلات تتراجع عالمياً، وترتفع محلياً؟ ما التفسير؟ في الحقيقة يمكن تفسير هذا الوضع بعدد من التفسيرات وهي:
الأول: أن ارتفاع أرقام التحويلات يؤكد حقيقة أن المملكة كانت من أقل دول العالم تأثراً بالأزمة العالمية. فانخفاض التحويلات لا يكون إلا نتيجة لتسريح العاملين وإغلاق المصانع والشركات بسبب تداعيات الأزمة. ومن ثم، فإن ارتفاع أرقام وأحجام التحويلات إلى هذا المعدل غير المسبوق ليس إلا دليلاً على كون المملكة بمنأى عن تداعيات الأزمة العالمية. ولهذا لم تنخفض أو حتى لم تستقر أرقام التحويلات بل ارتفعت لتخالف الوضع العالمي.
الثاني: وهو نمو الناتج المحلي السعودي بمعدلات غير مسبوقة خلال السنوات التي أعقبت طفرة النفط الأخيرة والتي كان عام 2008م هو العام المتمم لها فقد ترتب على تلك الطفرة تصاعد ومضاعفة عمليات الإنتاج والمشاريع وهو ما استدعى الحاجة إلى استقدام المزيد من الوافدين. إلا أنه بمراجعة أرقام ومعدلات نمو العمالة الوافدة خلال السنوات الأربع الماضية تبين أنها دارت حول 6.5 في المائة، في حين أن قيم التحويلات بأكثر من 33 في المائة! لا شك أنه لغز يستحق الدراسة. لابد من معرفة أسباب هذا النمو الكبير في قيمة التحويلات في وقت دارت فيه معدلات نمو العمالة الوافدة عند المعدلات الطبيعية!
الثالث: وهو أمر سلبي مع الأسف، وهو أن تصاعد أرقام التحويلات بهذا الحجم يؤكد عدم نجاح سياسات توطين أموال العاملين في المملكة. فقد تم تبني عديد من السياسات خلال الفترة الماضية، والتي استهدفت تشجيع الوافدين على استثمار دخولهم في الاقتصاد الوطني من خلال عديد من القنوات كالتملك أو الاستثمار في سوق رأس المال وإلى غير ذلك. ولكن ورغم تلك السياسات، إلا أن أرقام التحويلات شهدت معدل نمو غير مسبوق.
الثالث: وهو أمر سبق أن تطرقت إليه في مقال سابق، أن أغلب العاملين في المملكة يصنفون ضمن العمالة محدودة التعليم والمهارة، فنسبة الوافدين الحاصلين على المؤهلات الجامعية تقل عن 30 في المائة من إجمالي الوافدين. ولهذا، يفتقر أغلب العاملين الوافدين إلى ثقافة الاستثمار، ومن ثم لا تعنيهم كثيراً سياسات تشجيع الوافدين على الاستثمار، هذا ناهيك عن أن أغلب هؤلاء، ونتيجة لتأهيلهم المنخفض، يحصلون على دخول متدنية، ولهذا هم الأقل إنفاقا والأكثر حاجة لتحويل دخولهم إلى بلدانهم. إذاً ليس غريباً أن نرى هذه الأرقام، بل علينا أن نتوقع تضاعفها في السنوات المقبلة، إلا إذا تم إجراء تطوير جدي على سياسة الاستقدام أو تم الإسراع في إنشاء شركة مساهمة للاستقدام، تستطيع ضبط سوق العمالة الوافدة، وتوجهه نحو ما يخدم الاقتصاد وقطاعاته المختلفة.
مؤكد أن الهدف ليس حبس دخول الوافدين ومنعهم من تحويل مدخراتهم، نظراً لأن هذه التحويلات تشكل مصدرا مهما من مصادر الإيرادات العامة في الكثير من الدول التي يفد منها العاملون. ولكن الهدف هو تحقيق قدر من الموازنة تراعي مصلحة الأطراف كافة، البلد المصدر للعمالة والبلد المستقبل لها فالتحويلات في حال تصاعدها بشكل حاد قد تخلق ضغوطاً ومشكلات غير مرغوبة على موازن مدفوعات البلدان المصدرة للتحويلات، وخاصة الاحتياطي من العملات الصعبة، وما قد يترك هذا من أثر في الاقتصاد وسعر الصرف في البلد المصدر للتحويلات.
إذاً، المطلوب هو تفهم ما تعنيه هذه الأرقام، وهو أن اقتصادنا بخير، ولم يتأثر بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، بدليل استمرار العاملين في مواقعهم، ومن ثم استمرار حصولهم على دخولهم، وارتفاع أرقام تحويلاتهم إلى بلدانهم، ولكنها تعني أيضاً أن سياسات الاستقدام وحفز الوافدين على استثمار دخولهم في المملكة لم تحقق المستهدف منها. كما أن معدل نمو التحويلات نحو خمسة أضعاف معدل نمو العمالة خلال الفترة من 2007 وحتى 2008م، فينبغي وضع تفسير لهذه الفجوة.
لا بد من إجراء تطوير جذري وعاجل على السياسات الخاصة بالاستقدام ووضع سياسات أكثر فعالية لحفز الوافدين على الاستثمار في المملكة شأن الوضع في بلدان أخرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. لابد من التحرك الجاد حتى لا تتحول ظاهرة التحويلات بمرور الوقت إلى مشكلة كبرى يصعب معها وضع الحلول الناجعة. فالمملكة والاقتصاد الوطني سيظل في حاجة إلى العامل الوافد، خاصة في ضوء خطط واستراتيجيات التنمية المتعددة، ولكن لابد من تعظيم الاستفادة من الوافدين عبر سياسات أكثر كفاءة وانتقائية. والله الموفق.