بيئة التفجير .. لننظر إلى الداخل
على مدى 30 عاماً وأحداث التطرف تمد يدها من وقت إلى آخر إلى تراب وطننا الطاهر ابتداء من حادثة احتلال الحرم المكي الشريف غرة المحرم لعام 1400 من الهجرة إلى محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية في شهر رمضان الكريم 1430، وخلال هذه العقود الثلاثة التي انفجرت فيها الثورة الإعلامية وأرباب التشدد من خلالها يشوهون صفحات الإسلام وصفحات موئل الإسلام في أنحاء العالم كافة ومن مظاهر التشويه حادثة برجي التجارة في نيويورك بمشاركة 15 غراً من أبنائنا في هذه الكارثة التي جنت على الإسلام والمسلمين وستجني عليهم في المستقبل الكثير من المشكلات والمعوقات.
كثير من المعنيين بهذه القضية من المتابعين والكتاب والمحللين يتغاضون عن الأسباب الداخلية لهذه الظاهرة ويعزون أسبابها إلى عوامل خارجية ويؤكدون أن هذه الأفكار مستوردة من الخارج ولهذا كانت الجهود في مواجهة هذه الظاهرة في الغالب مبنية على هذه الاعتبارات وعليه تم التركيز على العوامل الخارجية مع الإهمال الواضح بقصد أو من دون قصد دور العوامل الداخلية والأفكار المتشددة ذات المنشأ الداخلي، ما أثر سلبا في طريقة المواجهة ومن ثم في نتائجها, وأدى ذلك بطبيعة الحال في النهاية إلى عدم اقتلاع جذور هذه الموجات الخطيرة رغم كثافة الجهود وامتداد الزمن نتيجة بقاء الأفكار الداخلية دونما مساءلة.
فمن قام بحادثة الحرم التي لن يغفلها التاريخ كلهم من أبناء هذه البلاد ولن يستطيع أحد أن يقول إن أفكارهم جاءت من الخارج أو إنهم امتداد لأي حركة من الحركات العالمية التي نشأت في الخارج، كذلك المشايخ الثلاثة الذين استضافهم التلفزيون السعودي قبل بضع سنوات وهم كانوا قبل ذلك من رموز التكفير تلقوا تعليمهم في بلادنا ولم يكن لهم أي صلة بالخارج بأي شكل من الأشكال. وما أود قوله والتأكيد عليه أن موجات من التشدد قد نبتت في بلادنا وهيأت الفكر العام للشباب لتقبل حركة العنف ثم التحول إلى قناعة التفجير التي لوثت أفكار كثير من الشباب الأبرياء، ولا يعني هذا في المقابل استبعاد الخارج من هذه المسألة.
ومؤشرات هذا التشدد تتضح بشكل دائم وتتجلى عند إقامة بعض المحاضرات أو الفعاليات الثقافية في المراكز الثقافية التي أنشأتها الدولة وتحت إشرافها كالأندية الأدبية فما إن تقام محاضرة عامة هنا أو هناك إلا وشرر من التشدد يقدح من هذه المواقع، وهذا لا يعني حدوث بعض الأخطاء من قبل من يقوم بهذه المحاضرات أو الأمسيات ولا ندافع عنهم ولكن ينبغي في مثل هذه الحالات أن يكون الاعتراض عن طريق الأقنية الرسمية المشروعة بالأساليب الحضارية إلا أن ما يحدث في الواقع من قبل قطاع كبير من الشباب من تهديد وتشنج يمثل برهاناً ساطعاً على سيادة ثقافة التشدد وغياب ثقافة الحوار والمحاجة بالتي هي أحسن، وهو سلوك لم يكن يوماً من الأيام من صفات الأئمة وعلماء الدين.
المعلمون الأكفاء الغيورون يشتكون من تحييد بعض زملائهم المنهج الدراسي الرسمي وزراعة كثير من المفاهيم البعيدة عن مجال التعليم بدلاً منه والتركيز على ذلك في المدارس في المراحل التعليمية الثلاث وإحلال الأفكار المتشددة محل الأهداف العامة للتعليم واحتضان المدارس بؤر التشدد, وهذه التوجهات تمثل خطورة كبيرة على المجتمع نظراً للأعداد الكبيرة للطلاب التي تمثل نسبة كبيرة من عدد السكان مع خطورة المرحلة العمرية التي تمثل مقتبل العمر, فالطلاب لديهم الاستعداد النفسي والاجتماعي لقبول ما يأتي إليهم من مؤثرات من قبل معلميهم لما للمعلم من تأثير كبير ومقنع في الطلاب انطلاقاً من موقعه كمصدر للتعليم, فمن بعضهم أتت زراعة أساليب التشدد وتوجيه الطلاب إلى قناعات بعيدة عن التسامح والتراحم بين الناس.
ومن الملاحظات حول هذه القضية وصلتها بالتعليم أن عددا من طلاب الجامعة يشتكون من ضعفهم في اللغة الإنجليزية مع أنهم متميزون علمياً وعند سؤالهم عن الأسباب مع دراستهم للإنجليزية لمدة ست سنوات في المرحلتين المتوسطة والثانوية تكون الإجابة بشيء من الألم أن بعض معلميهم في الإنجليزية أحالوا موضوع الحصص من تعليم اللغة الإنجليزية إلى موضوعات الوعظ, وهو الوضع الذي جعلهم ينهون الثانوية العامة ومعرفتهم بهذه اللغة محدودة للغاية.
ولهذا كله فإن مما ينبغي القيام به لمواجهة ظاهرة التشدد هو تكوين فريق علمي متخصص متكامل تحت إشراف وزارة التعليم العالي ويمثل كل التخصصات ذات العلاقة بالموضوع كأساتذة أصول الفقه والتربية وعلم النفس وعلم الاجتماع وأرباب الفكر على أن يقوم هذا الفريق بدراسة علمية ميدانية موضوعية للتعرف على ظاهرة التشدد وكيفية نشوئها في بلادنا وكيف يمكن أن تعالج وتجفف مصادرها؟ لتقوم بعد ذلك المؤسسات الحكومية المعنية بهذه الظاهرة تحت إشراف وزارة الداخلية بتنفيذ هذه التوصيات دون أي محاباة. وهنا في هذه الحالة نستطيع القول بضمان استئصال ثقافة التشدد وإن احتاج ذلك لفترة طويلة، هذه الثقافة التي أساءت إلى الإسلام قبل كل شيء وأساءت إلى شعبنا وبلادنا وجعلت منا أناسا غير مرغوبين بعد أن كان الواحد منا يستقبل بحفاوة وتقدير أينما سافر قبل بروز هذه الظاهرة المشينة.