هذا الحفيد من ذاك المؤسس
في المكالمة الهاتفية التي جرت بين الأمير محمد بن نايف والشاب الذي فجر نفسه لم تكن المضامين غريبة, ولم تكن مفاجأة, ولن تكون الأخيرة, بل ستكون هناك مكالمات أخرى بهذه المضامين وأرقى.
المكالمة جددت ما هو معروف عن منهج المؤسس الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في جمع الناس وتأليف قلوبهم، وقيادتهم لتحقيق هدف مشترك تعود منفعته عليهم هم أولا، المكالمة كانت درسا عمليا سمعه الناس ومعهم الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد, وأحفاد الأحفاد, وكشفت عن جانب من موروث المؤسس الملك عبدالعزيز، وهو الزعيم الذي كان الكبير في حلمه، العظيم في إنجازاته.
هذا الجزء هو أحد مكونات (فن الحكم) الذي يعلمنا التاريخ أن العظماء هم القادرون على تحقيقه بالفعل لا القول..
إنه القدرة على تحويل الأعداء إلى أصدقاء .. الأعداء للوطن ينقلبون حماة له مدافعين عنه لأنه لهم ولأولادهم.
والقادة الذين لديهم مشروع كبير يتجاوزون الأمور الصغار حتى لا تصرفهم عن تحقيق الإنجازات الكبار. وهذا هو منهج الدولة في التعامل مع الإرهاب الذي انطلق كبيرا، وسوف يعود أدراجه، لأن الهم الأكبر، أي بناء الدولة والمجتمع، سوف يطمره.
حديث الأمير محمد بن نايف رغم كل الظروف والمعطيات, جاءت تلقائية, مسؤول همه الأكبر ومشروعه استعادة الأمن, لذا هو يقدم حسن الظن لأن هذه هي القاعدة الإنسانية والشرعية الأساسية التي تصوغ العلاقات الإنسانية, لذا كانت المكالمة حاملة للمضامين الإنسانية الراقية.
إن مبدأ الدولة الذي ينفذه الأمير محمد ويهيئ له الظروف والأسباب هو أن يعود المنشقون إلى أنفسهم ووعيهم وأهلهم, كان ينظر لهم على أنهم خلل قابل للإصلاح, قابل للرد الجميل, فخلفهم أمهات حزانى وآباء مفجوعون, يدعون الله آناء الليل والنهار أن يرد إليهم أبناءهم .. ودعواتهم قد تفتح لها أبواب السماء وتكون الاستجابة.. وليس ذلك على الله بعزيز.
هذا المنهج يفهمه كثيرون ويرفضه قليلون, ولكن من في ذهنة (مشروع بناء) للمستقبل لا ينسف مشروعه لانشقاق فرقة أو انحراف جماعة, فما زال في الأمة الكبرى مقومات نجاح واستمرار المشروع الكبير.
وكان هذا هو منهج الملك عبد العزيز لتأسيس الدولة, لقد مضى يطوي الأرض يقدم نوايا السلام على الحرب، وهو المنهج الذي يتطور ويتأسس وتأتي الأحداث والخطوب والملمات لتعززه وتجدد الحياة فيه دون ترتيب أو تخطيط «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم».
ومكالمة الأمير محمد بن نايف كانت دفعة جديدة لهذا النهج .. خرجت كما زرعت في الثقافة وفي النظام المعرفي الذي يحكم السلوك ويوجهه في مؤسسة الحكم، والأمير محمد بن نايف يعيش مع هذا الموروث ويتعلم منه.
ثمة درس نتذكره الآن، ألا تذكرون حادث اختطاف الطائرة السعودية من قبل اثنين من ضباط الأمن، يومئذ وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده الأمير نايف للحديث حول هذا الاختطاف أول كلمات قالها الأمير نايف كانت رسالة إلى أهل الضابطين يطلب منهم أن يبعثوا إليه اثنين من أبنائهما لكي يعينهما بديلا عنهما في جهاز المباحث.
يومها قلت .. هذا درس عملي على الطبيعة لمنهج الملك عبد العزيز, خرج بهذه الأريحية ولا يجيده إلا التلاميذ الذين تعلموا في مدرسة حكم أصيل. ومن أدبيات هذه المدرسة جاء حديث الأمير محمد مع الشاب الذي فر من دينه وأهله.
القادة, ينظرون للمستقبل, يجمعون ولا يفرقون, يبنون ولا يهدمون, يقدمون العفو عند المقدرة والحلم قبل الغضب, يرضون أن يكونوا مظلومين وليس ظالمين!
إنه فن إدارة الحكم الشاق الكبير.. فليس سهلا أن تقلب الشر إلى خير، وتحول الهدم إلى بناء، والفرقة إلى اجتماع، كل ذلك يحتاج إلى الصبر والحكمة والروية والجهاد مع النفس, والذين لا يفهمون هذه الأمور وينظرون إلى الأشياء بمنظارهم (المتطرف) الأحادي .. هؤلاء الذين لا يرون أبعد من يومهم, قد يفسرون الحلم ضعفا، والعفو لينا، والصبر مضيعة للوقت، هؤلاء تحركهم المشاعر والأهواء، إنهم كالصديق الجاهل، ضرره أكثر من نفعه!
< < <
* الكتاب التاريخي الوثائقي الممتع (لسراة الليل هتف الصباح: الملك عبدالعزيز دراسة وثائقية)، للشيخ عبدالعزيز التويجري - رحمه الله – هذا الكتاب يضم الكثير من الوثائق والمواقف والآراء التي هي جزء من الموروث الكبير الذي يجدر بكل سعودي يخاف على بلده ويتطلع إلى المستقبل أن يطلع عليها.. أترككم مع هذه الفقرة التي توضح منهج المؤسس الكبير (ص 230):
«الملك عبدالعزيز في جزيرة العرب ليس ملكا فحسب، بل رئيس عائلة، ومن عجيب شأنه أن هذه العائلة قد جمعت خصومه الأولين وأعداءه الأشداء وأولياءه في ساحته، وقد تشرفت بأن أكون ضيفا له مرتين في الرياض في فترات متباعدة قبل الحرب وبعدها، فكان مما يعجبني أن أرى على مائدته أو في الصيد معه أولئك الذين قاتل آباءهم من قبل، يعاملون معاملة الإخوة والأبناء».
هذا هو الملك عبدالعزيز ونفسيته ولون تفكيره وقدرته على قهر النزعات التي تحرق الجمال الإنساني في الفرد والجماعة. ولعل الآية الكريمة قد قرت في نفسه ألا وهي }والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس والله يحب المحسنين{.