(1) مرحلة الاختلاف في الرؤية والتعامل
لعل الحديث أو الكتابة عن ظاهرة الإرهاب يعد اليوم المهمة الأكثر سهولة أو الأشد صعوبة بالنسبة لأي كاتب أو باحث، وذلك بحسب المنهج الذي يتبعه في التعامل معها فهي مهمة سهلة إذا ما استسلم للطوفان الإعلامي والسياسي الذي يغرق العالم حديثاً عن ذلك "الإرهاب" منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 مركزاً على إدانته وعرض ملامحه الوحشية التي تهدد استقرار العالم, بل مصيره، وكأن الأمر يقتصر على إعلان مواقف مبدئية من تلك الظاهرة التي يصعب أن يوجد عاقل يؤيدها وهي بتلك الملامح والخصائص الكريهة. من هنا فالمهمة الأسهل للباحث هي أن يتخذ ذلك "الموقف المبدئي" وينخرط مباشرة في طابور الإدانة الطويل لتلك الظاهرة المقيتة ويسعى إلى عرض وتحليل عناصرها ومكوناتها ومخاطرها على البشرية، دون أن يضيع وقتاً طويلاً في تعريف وتحديد طبيعة ذلك "الشيء" الذي ينصب عليه كثير من الإدانة واللعنات والقليل من التعريف والتحديد والتحليل.
وتتحول المهمة إلى الصعوبة بعينها حين يشرع الكاتب أو الباحث، بعد إقراره العلني المبدئي بإدانة ظاهرة "الإرهاب" المقيتة، في محاولة تحديد طبيعتها ووضع تعريف واقعي لها يوضح ملامحها والحدود القائمة بينها وبين ظواهر أخرى قد تختلط بها – تحت وطأة الطوفان الإعلامي والسياسي – من حيث الشكل دون أن تشترك معها في أي مضمون. وتزداد الصعوبة أكثر حينما يشرع – وذلك هو عين مهمته – في تحليل مسببات الظاهرة ومكوناتها وآثارها وتطورها المحتمل في المستقبل، حيث قد يواجه في ظل طوفان الإدانة الإعلامي والسياسي العالمي الحالي للإرهاب بتأويل البعض لما قد يقدمه من "تفسيرات" للظاهرة باعتبارها "تبريرات" لها، الأمر الذي يحول بينه وبين أي اجتهاد حقيقي في فهم الظاهرة ويدفع به إلى الانخراط في إنجاز المهمة الأسهل التي تقتصر على وصف ملامح "الإرهاب" الكريهة وإدانته.
وسعياً إلى انتهاج الطريق الأصعب في النظر إلى ظاهرة الإرهاب، فإن ما يمكن قوله هو أنه حتى وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ظل النظر إلى ظاهرة العنف والإرهاب مختلفاً بوضوح بين الدول العربية والإسلامية ـ بخاصة تلك الواقعة في منطقتي الشرق الأوسط والخليج التي كانت تعانيه والولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية فقد بدأ استخدام مصطلح "الإرهاب" مبكراً لوصف عمليات العنف التي قامت بها بعض الجماعات الإسلامية الجهادية في بعض الدول العربية وفي مقدمتها مصر التي عانت تلك العمليات منذ نهاية السبعينيات وكانت أبرزها عملية اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات عام 1981. وعلى الرغم من بدء استخدام المصطلح نفسه في بعض الدوائر الأمنية والسياسية والإعلامية الغربية في الوقت نفسه، إلا أن تقدير حجم ومدى ومخاطر ومسببات ظاهرة العنف والإرهاب في تلك الدوائر كان مختلفاً كثيراً عن ذلك القائم في الدوائر العربية المماثلة. ومع اندلاع موجتي العنف الإسلامي الأكبر في كل من الجزائر ومصر في صيف عام 1992 وحتى انحسارهما في نهاية عام 1997 بدا أن الفجوة ما بين التقديرات العربية والتقديرات الغربية، خاصة الأمريكية، تجاه تلك الظاهرة آخذة في الاتساع.
إلا أن العام التالي مباشرة، 1998، كان هو نقطة البدء الرئيسية في تراجع مساحة تلك الفجوة وتزايد التقارب بين التقديرات العربية والتقديرات الأمريكية والغربية لظاهرة العنف والإرهاب فقد شهد شباط (فبراير) من ذلك العام تشكيل "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، التي قامت بتفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا في آب (أغسطس) من العام نفسه، ما دفع الاهتمام بالظاهرة إلى مقدمة الأولويات الأمنية الغربية, خاصة الأمريكية, وقارب تدريجياً بين الرؤى العربية والغربية, خاصة الأمريكية. وكانت تلك الرؤى قد بدأت قبل ذلك في التقارب خلال قمة "صناع السلام" الدولية التي عقدت في شرم الشيخ في آذار (مارس) 1996 وكان البند الرئيس في جدول أعمالها هو "الإرهاب" في ارتباطه بعملية السلام العربي ـ الإسرائيلي، وذلك بعد سلسلة من العمليات الاستشهادية الكبيرة التي قامت بها حركة المقاومة الفلسطينية (حماس).
وكان النظر إلى ظاهرة العنف والإرهاب لدى النظم في العالم العربي مختلفاً عن النظر إليها من الجانب الغربي والأمريكي في ذلك الوقت من عدة زوايا أبرزها حجمه ومداه، حيث كان التقدير العربي يرى أنها ظاهرة عالمية ـ أو هي على الأقل مرشحة لذلك ـ في حين كان التقدير الغربي والأمريكي يعتقد أنها ظاهرة محلية تتركز في بعض البلدان العربية والإسلامية. وقد ارتبط بذلك الخلاف حول الحجم والمدى اختلاف آخر حول المسببات الرئيسة لهذه الظاهرة، حيث ساد لدى النظم العربية تصور بأنها نتجت عن خليط من الانحراف الفكري والديني لعناصر وجماعات إسلامية عن صحيح الفهم الإسلامي، والدعم الخارجي الفكري والمادي من دول وجماعات ذات طبيعة إسلامية متطرفة، فضلاً عن التواطؤ ـ أو التجاهل ـ من جانب دول غربية تجاه بعض العناصر القيادية لتلك الجماعات التي أعطيت حقوق اللجوء والإقامة في بعض الدول الغربية. أما الفهم الرائج في النظم الغربية, خاصة الولايات المتحدة, لمسببات الظاهرة فقد كان يركز في تلك المرحلة على الأبعاد المحلية, خصوصاً تلك المرتبطة بالثقافة الدينية الإسلامية السائدة وبالطبيعة غير الديمقراطية والمغلقة للنظم السياسية في الدول العربية، فضلاً عما ينتجه التخلف الاقتصادي من مشكلات اجتماعية مثل البطالة أو التباين الحاد في توزيع الثروة والخدمات والوظائف بين شرائح المجتمعات العربية ومناطقها المختلفة.