كلنا طالب علم ولا كهنوت في الإسلام (2 من 2)
التأويل في اللغة هو إرجاع الشيء إلى أصله، ويكون في تضمين نص قديم مفهوما حديثا تأسس لدى صاحبه، لذا نجد أن المؤول يؤسس المفهوم ابتداء ثم يبحث في النصوص الشرعية الأصلية عن رابط للمفهوم، به يكسب المفهوم مصداقية النص الأصلي، والمؤول على حسن نيته يتتبع الأقوال التي تترابط في تكوين مفهومه ثم يكتفي بها، وهو بذلك ـ وبصورة إرادية أو غير إرادية ـ يتجنب ذكر التعابير التي تستعصي التأويل الذي يريد ولا يذكر منها إلا ما يستسهل رده أو إبطاله، وذلك في صورة إثبات عكسي لمفهومه ونرى ذلك واضحاَ في كثير من الفتاوى التي يقدمها كثير من متصدري الفتوى، فعلى سبيل المثال، في حال طلبت الفتوى لأمر استجد على الناس مثل (استئجار الأرحام) والذي يتمثل في عملية قانونية طبية يقوم الطبيب خلالها بتلقيح بويضة بحيوان منوي لزوجين يربطهما عقد زواج شرعي خارج رحم الزوجة ثم تزرع تلك النطفة في رحم امرأة أجنبية لإكمال عملية الحمل والولادة وعند الولادة يصير المولود للزوجين صاحبي النطفة وتنتهي علاقة المرأة الحاملة والواضعة بنيلها أجرتها. هذا الإجراء أشكل على كثير من المسلمين وباتوا في حيرة تجاهه. وقد أتت الفتاوى على وجهين وجه يحرم ذلك، وآخر يبيحه بضوابط، فالذي يحرمه هو مؤول لنصوص قديمة لتخدم مفهومه بالتحريم، حيث أسس مفهوم تحريم استئجار الأرحام كمفهوم حديث، حيث لم يقبل به أحد قبل ذلك، وبات يبحث في النصوص عما يسند هذا المفهوم، وكذلك الذي أحل عملية استئجار الأرحام سلك المنهج نفسه في اختيار النصوص التي يمكن تأويلها بحيث تخدم مفهومه الحديث والذي لم يقل به أحد قبله. ولو كان النص صريحاً لما كانت هناك حاجة إلى التأويل فمثلاً لا يمكن لأحد أن يؤول حكم أكل لحم الخنزير حيث النص القرآني صريح "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم"، ولكن هناك نصوص تحمل مضامين قابلة للتـأويل والباحثون بغية تغليب مفاهيمهم يجدون في التأويل منهجية يتبع فيها الاستدلال والاستنتاج وهي فنون عقلية يبرع فيها أناس، وبالتالي تكون تلك التأويلات محتملة الصحة والخطأ أو يكون الخطأ والصواب ليسا المعيار بل المعيار هو ما يطمئن له قلب المسلم من خيار بين ما يتوافر له من نصوص واجتهادات.
أما التفسير فهو حين نكون أمام نص غائر المعنى أو يحتمل أكثر من معنى كما قال علي ـ كرم الله وجهه ـ "القرآن حمال أوجه" فإن المفسر يحمل في نفسه مفهوم أو مفاهيم سابقة لتعامله مع النص هي بالنسبة له أقدم وأرسخ فإذا كان أمام النص فسره بما يختزنه من مفاهيم، حيث يكون ذلك التفسير محققا لتلك المفاهيم، لذا نجد أن المفسرين على اختلاف ظروف معيشتهم المكانية والزمانية يختلفون في تفسير بعض تلك النصوص ونجد الدعوة مستمرة لإظهار تفسيرات حديثة للقرآن الكريم. ومن أراد أمثلة على اختلاف المفسرين فليطلع على أي منها وسيجد الكثير وهو دليل اختلاف المفاهيم البشرية، ولو لم يكن في ذلك مساهمات بشرية لما اختلفت كتب التفسير ولأصبحت متماثلة أسوة بأصلها وهو القرآن.
الذين تعاملوا مع النصوص النبوية أيضا لم يكونوا بعيدين عن ممارسة التفسير والتأويل ولكن ذلك كان بصورة مختلفة، فحقيقة أن هناك بعض الأحاديث الموضوعة جعل المفكرين المسلمين الأوائل يتعاملون مع الحديث بصورة مختلفة عن القرآن من حيث المصداقية والشمول، فالقرآن بودر في توثيقه ساعة نزوله في صورة مكتوبة على رقاع الجلد والورق وأحياناً العظام وألواح الطين وجمع في صورة مصحف بعد زمن قليل من وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم ينله تحريف واستمر مصانا بالحفظ و التوثيق المكتوب لذا اكتسب مصداقية لا تجارى، فلا يمكن لأحد أن يتهم القرآن بزيادة أو نقصان، ولكن الحديث لم يكن له هذا الحظ من التوثيق، فقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير ميال لتوثيق الحديث، وقد تواتر أنه نهى عنه ثم أن الخلفاء الراشدين من بعده لم يهتموا بتوثيق الحديث على الرغم أنهم تداولوه فيما بينهم، وبعد أن انتشر الإسلام في الأمصار خارج جزيرة العرب أصبح الحديث من أدوات السياسة والتبرير، وبات كل فريق يبحث في الحديث عن ضالته فإن لم يجدها، أحدثها، وهذا ما يفسر كثيرا من تحفظ التابعين في رواية الحديث، فمالك يقول: عندما قل استشهاده بالحديث "نروي الحديث في المدينة شبراً فيأتينا من العراق باعا" يعني أنه يزاد عليه، وبعد أن انتشر بين الناس كم كثير من الأحاديث الصحيحة والمكذوبة وباتت تلك المكذوبة مطية لذوي النوايا السيئة في إفساد عقائد المسلمين أو توظيفها لأهوائهم، انبرى عدد من المحتسبين لعملية تأصيل وتوثيق الأحاديث الصحيحة كل حسب منهج مختلف، وعلى الرغم من كون صحيح البخاري أكثر كتب الحديث احتراما لدى جمهور السنة إلا أن عملية التوثيق والتأصيل لديه لم تكن بتنظيم صحيح مسلم، البخاري اعتمد على منهجه في جرح وتعديل الرواة، والذي بينه في كتابه التاريخ الكبير ولم يكن ينظر في متون الحديث وهو ما جعل كثير من الأحاديث التي يرويها مكررة بصور مختلفة الروايات وبصياغات لمتونها مختلفة والتي زادت على سبعة آلاف حديث، أما صحيح مسلم فقد شرح منهجه في المقدمة وبين أنه سمع 300 ألف حديث وثق منها ما ينيف على ثلاثة آلاف فقط.
إن المنهج الذي تم التعامل معه في توثيق الحديث تجنب في أكثر المسانيد نقد المضمون، حيث إن منهج أهل الحديث على العموم هو عدم تحكيم المعقول لتصحيح المنقول، لذا انصب جهدهم في توثيق الإسناد وبات علم الجرح والتعديل وكتابة السير من أهم العلوم التي اهتم بها أهل الحديث، في حين برز عدد من المفكرين المسلمين وأسسوا علم الكلام وهو تأصيل منطقي للمعارف الدينية وتفسير للنصوص يقوم على أساس وحدة المعاني وكان بين فريقي أهل الحديث وأهل الكلام صولات وجولات أثرت كثيرا في التراث الإسلامي الديني والثقافي.
أمام هذا القول قد يتبادر إلى الذهن أنه طالما أن الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حقيقة وأن كثيرا من ذلك الكذب وجد طريقه لعقول المسلمين في أزمان مختلفة وأن ذلك الكم الهائل من الأحاديث المختلطة خضع لعملية غربلة متكررة من عدد من الباحثين الصادقين والمتحرزين، وأن جمهور المسلمين قد استقر على أن أوثق كتب الحديث هما كتابا صحيح البخاري وصحيح مسلم وأن الإمام مسلم قد سمع 300 ألف حديث، أخذ منها فقط ما يزيد قليلاً على ثلاثة آلاف حديث، وقد استخدم معايير في غاية الدقة في التوثيق في عصره، فلا شك أنه استبرأ لذمته من أن ينسِب لرسول الله ما لم يقله، لذا تجنب 296 ألف حديث وزيادة بضع مئات. ولا شك أنه لم يعمل في دينه وعبادته بسوى تلك الأحاديث التي أخرجها، وإلا كان متناقض القول والفعل وهو ما يربأ مثله عن فعله، لذا لو أراد أحد المسلمين أن يقول "إن ما وسع مسلم بن الحجاج لا يضيق بي فأنا لن أسمع أو أفعل إلا بما نص عليه كتاب الله وصحيح مسلم"، فهل نقول إن ذلك المسلم على صواب أم هو ضال الطريق؟ إن كان ذلك صوابا فإن الفائض عن ذلك مما يوجد في بطون الكتب المتوافرة في المكتبة الإسلامية من أقوال وفتاوى وشروح هي أقوال رجال مسلمين، للمسلمين خيار الأخذ منها أو الرد. وإن كان على ضلال فكيف نزكي الإمام مسلم وهو من لم يعمل بما قال غيره؟
إن عظمة الإسلام تكمن في سهولة معتقده فلا غنطوسية فيه ولا هرمسية ولا رهبنة ولا كهنوت، العلاقة بين الله وعباده مباشرة لا يحتاجون إلى من يتوسط بينهم وربهم أو يترجم إيمانهم أو ينقل صلواتهم أو يستغفر لهم ومن عظمة الإسلام بساطة تعاليمه مما يجعل الإنسان البسيط قادرا على فهمه وإتيانه، فلنا عبرة وأسوة في حديث الأعرابي الذي أتي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟"، فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نعم. وهي أيضا تتجلى في نهي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كثرة الاستفتاء، حيث قال "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم"، ومع هذه السعة الكريمة الإلهية على المسلمين في عدم تقييدهم بتفصيلات نبوية، للأسف نرى ونسمع اليوم من ينادي بتقييدنا كمسلمين بفتاوى وتأويلات وتفسيرات تفصيلية محددة وألا نقول إلا ما يقولون، لذا أقول لكل أخ كريم يعتد بقول طالب علم به يثق ولقوله يسمع بارك الله فيك وفيمن به تقتدي، ولكن لا تحمل على أخيك المسلم لأن له رأيا مختلفا اهتدى إليه بصدق إيمانه وعزمه على معرفة الحق مما توافر له من المصادر المختلفة طالما منبعها واحد هو كلام الله المحكم وهدي النبي المحقق فكلنا طالب علم ولا كهنوت في الإسلام يجب أن نتقيد به لتكون علاقتنا مع الله مقبولة.