ابتزاز تعثر الشركات

تطالعنا الصحف بخبر يقول إن هناك شركات محلية "ترمي بالشباب السعودي على رصيف البطالة" بحجة الأزمة المالية وضعف دعم الدولة وأن الدولة مطالبة بالتدخل لدعم هذا القطاع (الذي قد يكون محتكرا أو شبه محتكر) علاوة على مجموعة من الكتابات الرصينة – وغير - المنادية بحماية الشباب من البطالة وحماية الشركات من الإفلاس، وكلها دعوات تتمحور حول ضرورة تدخل الدولة لجبر كسور هنا أو هناك بحجج جميلة إنشائية تدور حول مدى أهمية الشركات وروعة دورها في اقتصاديات المملكة. وفي سياق هذا الخبر أو ذاك، يسهب المحرر أو الضيف في سلسلة طويلة من الافتراضات غير الصحيحة لدعم وجهة نظر ترتكز بكل بساطة على أن الخزانة العامة يجب أن تضمن دوام ربحية لتلك الشركات وإلا فالويل والثبور للسعودة وللقطاع الخاص ولاقتصاد المملكة. حجة تقول إما أن تدفع الخزانة العامة - أي من أموالنا جميعا - قيمة بوليصة تأمين أي خسارة بعض الأفراد أو ستسقط البيوت على ساكنيها، وتقول - دون أن تقول - سيسقط اقتصاد المملكة لأن شركة هنا أو هناك متعثرة. فكرة ببذور اشتراكية قوامها أن الدولة يجب أن تقوم بكل شيء وأن تكفل كل مشروع وألا يسقط في حلبة القطاع الخاص أي أحد بتمويل من الخزانة العامة. إلى الآن لا أعتقد أن هناك أسبابا وجيهة تبرر هذا الطرح.
فأولا، موضوع السعودة مزايدة عاطفية لا أعتقد أن أحدا بات يصدقها. هو موضوع لم تعد مسلية مناقشته لأن الإعداد متدنية جدا في القطاع الخاص لدرجة تجعل مجرد طرح فكرة تأثر السعودة أمرا لم يعد حتى مضحكا، وحتى يتم أخذها مأخذا جادا، فنحتاج أن نقرأ بيانات توضح أعداد السعوديين الموظفين في تلك المنشآت التي تطلب العون، حتى يكون الحديث موضوعيا.
وثانيا، دعم الدولة للقطاع الخاص كان ولا يزال مستمرا بلا انقطاع. فتلك الشركات منذ سنين – ولا تزال - وهي تستمتع بدعم حكومي مباشر وغير مباشر منحها قدرة تنافسية هائلة في مواجهة المنافس الأشرس الأجنبي، مثل أراض بأجور رمزية، وتعرفة جمركية على المستورد، وإعفاء جمركي على ما يدخل في صناعتها، مع العقود والمشاريع الضخمة التي اغتنموها في أوقات كان الكثير في قيلولة لم يصحوا منها إلا متأخرين. طفرة تلو طفرة لثموها لثما ورضعوها رضعا حتى آخر قطرة. فالدعم كان موجودا منذ أزمان، وإذا كان الدعم القديم لم يستطع إيقافهم على أقدامهم ولم يمكنهم من تشكيل مناعة تؤهلهم لمجابهة الأزمات، فهذه إشارة على خطورة استمرار الدعم لكيانات لا تستطيع أن تعتمد على ذواتها في أغلب الأوقات. فإلى متى والخزانة العامة تقدم الدعم؟
أقوى الحجج التي قدمت لتقديم الدعم هو القول إن هذه كيانات اقتصادية كبيرة ولها منفعة على الاقتصاد السعودي وسيكون فقدانها خسارة للاقتصاد السعودي. السؤال هو: كيف يمكن تحديد من هي الشركات ذات المنفعة الاقتصادية التي تستحق ضمانا من الدولة؟ ما هي المعايير ـ هل هي صناعية وأي صناعة؟ أم خدمية وأي نشاط في الخدمات هي... إلخ؟ من المخول بتحديدها ـ هل هي لجنة، هيئة، مجلس شورى؟... اعتقد أنه لا يمكن أن نصل إلى معالجة مرضية للجميع وكل شركة سترى أنها هي الأولى بالرعاية، من يضمن عدم وجود محاباة - إن لم يكن فسادا - في تحديد من يدخل ومن يخرج جنة الضمانات الحكومية؟
المهم، هل زوال شركة ذات قيمة اقتصادية عالية يعني وصولنا إلى النهاية؟ بمعنى لو افترضنا أن "سابك" مثلا أفلست، فهل يعني انتهاء الصناعات البتروكيماوية في البلد؟ أبدا! ألا يعني هذا أن "سابك" ربما سيشتري أصولها ومصانعها "آخر" يعرف كيف يديرها أفضل إدارة، لا من ناحية الموارد البشرية ولا المالية ولا التقنية؟ الإفلاس لشركة "منتجة" أو "قادرة على الإنتاج" لا يعني نهاية المطاف لتلك الصناعة، بل يعني ببساطة خروج المالك أو قائد السيارة بشكل قسري غير مبهج، وانتزاعها منه. ثم ماذا؟ هل سترمى مصانع ومكائن "سابك" في الشارع، أو ستباع خردة؟ أم ستكمل إنتاجها بتفاصيل ومعادلة مختلفة؟ هناك شخص آخر سيأخذ مقود السيارة، اشترى مصنع "سابك" من التفليسة مثلا، وأعاد الهيكلة الإدارية والتقنية، وجدول الديون، وأظهر انضباطية أكثر... إلخ، والنتيجة الربحية عادت، والموظفون عادوا، والاقتصاد تعافى. هي مرحلة توقف قهرية لا بد منا في أوقات متفرقة في عمر الاقتصاد لأي بلد حتى يغسل الاقتصاد أوساخه وينفض عنه غبار السنين. أما إفلاس غير المنتجين، فلا أظنه سببا للمناحات. باختصار، إفلاس أي شركة لا يعني نهاية العالم؛ بل هي استراحة لن تطول، يتخللها تغير للمدرب ولخطة اللعب.

أخيرا، إن الدعم وتدخل الدولة المباشر خطر جدا ومكلف جدا. ليس على المستوى المالي فقط، بل أثره في بيئة المملكة الاقتصادية يتعدى مجرد فك أزمة هنا، وجبر عثرة هناك. خطورته تكمن في الاتكالية التي سيغرسها في ذهنية الجميع، وهو ما سيخلق بيئة استثمارية مليئة بالمخاطرين والمتهورين والمقامرين. نعم جميل أن يكون هناك مغامرون في الاقتصاد، ولكنه مصيبة أن يكون الكل مغامرا في الاقتصاد، حيث تنعدم الأنشطة المعتادة التي تشكل العمود الفقري في الاقتصاد. لقد عانت الدول الشيوعية وتجرعت العلقم من سياسة الدعم وتدخل الدولة في مناشط الحياة الاقتصادية مما أدى في نهاية المطاف إلى انهيارها بشكل صارخ. لسنا على مشارف انهيار ولكن بداية الألف ميل، خطوة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي