هل ستغيّرنا الأزمة الاقتصادية كما تغيّر مدننا ومنازلنا؟
قد لا يختلف اثنان في أن الأزمات الاقتصادية تترك دائماَ آثارها وتبعياتها السلبية. وتغير الكثير في النفوس وفي نظرتنا للآخرين وعلاقاتنا الأسرية أو الاجتماعية مع الآخرين. أو كما يقول المثل الشعبي "الفلوس تغير النفوس"، وعلم التخطيط يؤكد ذلك. فهي فرصة لنا لإعادة النظر في مسار حياتنا السابق والذي يشوبه كثير من الإسراف والتبذير، ومحاولة تصحيح أسلوب حياتنا للأفضل أو الأكثر حكمة. وخاصة في الطريقة التي نمارسها في بناء مساكننا والتي ما زالت تمر بحالة من الفوضى الفكرية التي تأثرت ببعض العادات والتقاليد والنفاق الاجتماعي والتنافس بين الأقارب والأصدقاء. وهي حالة تمر بها معظم المجتمعات, ولكن في وقت مبكر من التطور الحضري والعمراني. إن أي تغير في الأوضاع الاقتصادية دائما يترك أثره وتغيراته في الأوضاع ومجريات الأمور الاجتماعية والسياسية، سواء للإنسان أو المنزل أو المدينة أو الدولة. وقد تكون مرت بنا تجربة مثل هذا الركود والتغير الاجتماعي قبل سنوات ولكننا لم نستفد منها، ولم نشبعها بالبحث العلمي الجيد لمعرفة آثارها لنكون أكثر تفهما لما يخص الإنسان المواطن على الأقل وما يفسره علم الاجتماع عن مدى تغير علاقاته. ومن ثم نعلم كثيرا عن مدى تأثر منازلنا ومدننا ودولنا بالأزمات الاقتصادية. فحتى المدن تغيرها الأزمات وتجعلها تتغير وربما للأفضل أو الأكثر تحكما.
وحيث إنني قد أشرت في الأسبوع الماضي إلى علاقة الأزمة الاقتصادية بأسلوب حياتنا ونظرتنا المستقبلية لتصاميم منازلنا. وأن الأزمة حتماَ ستغير أو تحد من مدى الإسراف الحالي في البناء. وأن التغيرات التي سنمر بها ستستمر معنا ومن الصعب أن نعود لسابق عهدنا في الإسراف. فإنني سأعرج على مدى التغير الذي قد تسببه الأزمة الاقتصادية لمدننا. وهي تغيرات آمل أن نتمعن فيها وأن نتحصن بالتخطيط المسبق لها وأن نجبرها على أن تكون لصالحنا قبل أن تجبرنا هي على حلول لا ترضينا.
ولعلنا اليوم نكون أكثر إدراكا لأهمية البحث العلمي لهذه المرحلة التي نمر بها لمعرفة مدى تأثراتها وبحيث تكون قاعدة ومرجعا علميا لما قد يحدث مستقبلاَ، ولتستفيد منها الأجيال القادمة ويستنبطوا منها ما يفيدهم لمستقبلهم. والبحث يجب أن يكون على مستوى الإنسان والمدينة والدولة.
التغير حاصل ولا مفر منه، ونحن كمواطنين ومدننا من جهة أخرى، لابد أن نعيد التفكير في طريقة النمو، فمدننا نموها فاحش ونحن نمونا فاحش ويشوبه الإسراف، ولعل هذه الأزمة تكون نذيرا لنا للحد من الاثنين. وقد سبق أن أشرت إلى طريقة وأسلوب الإسراف الذي نعيشه في مقالات سابقة، ولكنني اليوم أود أن أركز على مدى حاجتنا كمواطنين ومسؤولين إلى الحد من النمو الفاحش لمدننا.
فهذه الأزمة قد تكون نذير يؤكد ما سبقتنا إليه تجارب غيرنا بأن نمو المدن فوق طاقاتها أو ما تملكه من مقومات يعد من أكبر وأبرز المشكلات التي تواجه المدن الكبرى في العالم. وهذه الظاهرة معروفة وليست جديدة، بل إنها إحدى قواعد علم الاجتماع التي أكدها هبراماس أحد أكبر علماء الاجتماع في ألمانيا ومنذ أكثر من 200 سنة في نظريته عن المجتمع الصغير عندما يتحول إلى مجتمع كبير، وكيف أن الأخلاقيات والضوابط تتغير وتكثر الانعزالية والأمراض الاجتماعية والنفسية حتى تكثر أحداث الانتحار. وينتهي دور كبير القرية والأقارب في حل المشكلات العائلية حتى تصل إلى ما نراه اليوم من الرجوع إلى الشرطة والقضاء. حتى إن احترام الشباب للكبار من العائلة ينتهي في المدن.
نحن اليوم عاجزون عن السيطرة على مدننا وتوفير الخدمات اللازمة لها، فماذا سيكون حالنا بعد التضخم الفاحش الحالي والمستقبلي، الذي حتما سيفقد الدولة عملية السيطرة على الجريمة.
مجريات الأمور، والأمثلة والتجارب على ذلك دولياً كثيرة؟ والخلاصة التي نأخذها من تجارب الدول التي سبقتنا أن النمو السكاني المتزايد تنمو معه نسب كبيرة من الشواذ الاجتماعية والنفسية، والتي تؤدي إلى أمراض نفسية واجتماعية كثيرة وشذوذ وهوس فكري.
ومن هذا المنطلق دأبت تلك الدول على إيجاد واستحداث حلول ونظريات تخطيطية مناسبة للحد من نمو المدن العشوائي، ومن هذه النظريات تأتي نظرية "مناطق النمو العكسي" Polarization Reversal و"بؤرات النمو خارج المدن" GROWTH POLE THEORY))، وأبرز مثال طبق لها في العاصمة البرازيلية مدينة برازيليا ومدن الحدائق حول لندن. وهذه النظريات قد لا تناسب مجتمعنا وإنما تساعد على تدارك النمو قبل أن يخرج الأمر من أيدينا، وأن نحاول أن نستفيد ولو بقليل من تاريخ وتجارب المدن التي سبقتنا وتورطت في هذا المجال.
لقد أصبح من الواضح والمؤكد للجميع، أن هناك علاقة وثيقة بين تضخم المدن وزيادة معدلات وأنواع الجريمة لدرجة لا تمكن الأمن من السيطرة عليها. وهناك علاقة أكبر بين تخطيط المدن والحد من خطورة الأعمال الإرهابية. حيث إن تخطيط الأحياء بطريقة تقلل من المنافذ يساعد على عملية السيطرة والمحاصرة للأحياء بسهولة. وقد اتضح ذلك في الأحداث الإرهابية الأخيرة. كما أن تخطيط وتصميم بعض المباني والوزارات المهمة، بحيث تكون في مواقع مخصصة ومعزولة في تجمعات ومحاطة بمساحات تصل إلى مائة متر لتفصلها عن الطرق المحيطة بها، يساعد على حمايتها من الأعمال الإرهابية، وحل ما نراه اليوم من تشويه وإعاقة للطرق والمدينة.
وأحد الحلول لمحاربة الجريمة هو أن يتم من الآن الحد من تضخم المدن الكبرى في المملكة والتحول إلى المدن التخصصية بصبغة واحدة، إما إدارية بحتة أو صناعية أو مالية أو سياحية... فقد انتهت موضة التنافس حول من يملك مدنا وحاضرات كبيرة ومكتظة بالسكان، وثبت للجميع، ومن تجارب الآخرين، أن النمو وتضخم المدن قلما كان مطلباَ حضاريا. وأن التاريخ والنظريات الحديثة في التخطيط تؤكد أن لكل مدينة في العالم حجما وحدودا ملائمة للنمو تتناسب مع مقوماتها ويجب ألا تتعداها. وأن تملك بعض المقومات الاقتصادية أو الطبيعية الدائمة التي تؤمن احتياجات سكانها على مر العصور.
وأحد أهم الحلول هو خلخلة القاعدة الاقتصادية للمدينة بنقل بعض الاقتصاديات التي تنمو عليها الخدمات. مثل نقل مقر سابك إلى مدينة الجبيل أو ينبع، ونقل بعض الجامعات مثل جامعة الإمام محمد بن سعود إلى القصيم، وكذلك نقل بعض أجهزة وزارة الدفاع والحرس الوطني إلى شمال وجنوب المملكة. نقل مثل هذه الأنشطة الاقتصادية يؤدي إلى نقل موظفيها والعاملين في الخدمات التي توجدها من بقالات ومغاسل وبنوك ومحطات... إلخ.
وهنا أعيد طرح السؤال الذي دائما أردده ولم أسمع له صدى، وهو: هل نمو المدن فوق طاقتها مطلب حضاري نسمو إليه أم أن التمهل مطلوب، وذلك باتباع سياسة التنمية المتزنة وإعطاء المدن والقرى الأخرى دورها بجعلها مناطق جذب لتقليل زحف السكان من القرى إلى المدن، ومحاولة المحافظة على حجم معين لكل مدينة بجعلها متميزة أو تخصصية لجذب تخصصات معينة من الاقتصاد والسكان، وذلك عن طريق توزيع القواعد الاقتصادية التي تفرز الوظائف والخدمات لتشجيع الهجرة مرة أخرى إلى المدن المجاورة (نظرية IN Put-outPut Model)؟
إن التكوين الحالي لمدننا جاهز لأن يكون نواة للمدن التخصصية، فلدينا العاصمة السياسية والتجارية والدينية ومستقبلاً العاصمة السياحية. إلا أن الاهتمام بتخصيص كل مدينة حسب طابعها ما زال مفقوداً وما زال يعاني إرهاصات وتركات ومشكلات الطفرة العقارية السابقة التي داهمت إمكانيات رجال المدينة بغفلة ودون سابق إنذار. وبقيت هياكل المدن ونمطها ونسيجها مهملة كالأطلال الخاوية.