الديمقراطية الاجتماعية تعيش في أمريكا اللاتينية

من بين الحكومات اليسارية المختلفة في أمريكا اللاتينية، ظهر نوع جديد من الأنظمة الشعوبية حادة النبرة (في فنزويلا، وبوليفيا، والإكوادور)، والتي تستولي على كل الاهتمام فيما يبدو. ولكن هناك أيضاً ميلا إلى الديمقراطية الاجتماعية في سياسات أمريكا اللاتينية ـ وهي سابقة تاريخية في المنطقة ـ والذي بدأ يكتسب المزيد من القوة. ففي البرازيل، وشيلي، وأوروجواي أثبتت الديمقراطية الاجتماعية أنها قادرة على العمل وإحراز النجاح.
وما يميز هذه الحكومات الديمقراطية الاجتماعية عن نظيراتها الشعوبية هو أنها تتألف من يسار مندمج في أنظمة ديمقراطية تنافسية متعددة الأحزاب. وكان هؤلاء الديمقراطيون الاجتماعيون ذات يوم يشكلون جزءاً من اليسار الاشتراكي أو الثوري أو الإصلاحي، وكانوا منحازين بوضوح إلى النقابات العمالية. ولكنهم في نهاية المطاف تقبلوا اقتصاد السوق، وأخذوا في الميل نحو الاعتدال الإيديولوجي والتنافس من أجل الفوز بالأصوات في الوسط السياسي. في الوقت نفسه، وبدافع من المنافسة السياسية والإيديولوجيات اليسارية، فإن هذه الحكومات الديمقراطية الاجتماعية تؤكد على النمو الاقتصادي والاندماج الاجتماعي.
إن قدرة هذه الحكومات على الإبداع تتوقف على الموارد والصلاحيات السياسية المتاحة لها. وتتمتع أول حكومة يسارية في تاريخ أوروجواي بميزات تنافسية في هذا السياق، وذلك لأن الديمقراطيين الاجتماعيين في أوروجواي، على خلاف الحال في البرازيل وشيلي، كانوا يحكمون باعتبارهم حكومة أغلبية تنتمي إلى حزب واحد. ولقد نجحت جبهة أمبليو في الجمع بين كل جماعات جناح اليسار في البلاد تقريباً، كما فازت بالدعم المخلص من جانب النقابات العمالية.فضلاً عن ذلك فقد فاز رئيس أوروجواي تاباري فاسكيز بمنصبه قبل خمسة أعوام في أول جولة، ومن خلال توحيد منصبي رئيس الدولة وزعيم الحزب، تمكن من صياغة زعامة رئاسية قوية واكتساب قدر كبير من الشعبية. نتيجة لذلك، وأثناء دورة الإزدهار الاقتصادي التي دامت حتى عام 2008، ومع ارتفاع أسعار السلع الخام والنشاط الداخلي، نجحت حكومة فاسكيز في تأمين استقرار الاقتصاد الكلي، والتوازن المالي، وعملت على تأسيس سوق مفتوحة، وشجعت المنافسة إلى جانب الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي.
ورغم هذا المذهب الاقتصادي المحافظ فقد لاحقت حكومة فاسكيز أيضاً إبداعات سياسية على قدر كبير من الأهمية: فتحسنت ظروف حماية حقوق الإنسان؛ وطبقت الحكومة إصلاحات ضريبية، بما في ذلك تقديم ضريبة دخل عامة متدرجة، فضلاً عن تأسيس نظام صحي شامل. وإضافة إلى ذلك عملت الحكومة على صياغة سياسات للتعامل مع الفقراء غير قائمة على اشتراكات تحويل الدخل والمخصصات الأسرية، وهي السياسات التي أفادت الأطفال القُصَّر والإناث من ربات الأسر المنفردات. كما دعمت الحكومة التعليم العام من خلال زيادة الإنفاق وبرنامج ''كمبيوتر محمول لكل طفل. هذا إلى جانب السياسة العمالية المحابية للعمال والنقابات، والتي أحيت مجالس تحديد الأجور.
تنتهي ولاية فاسكيز في آذار (مارس) 2010. ولا يجوز له ترشيح نفسه مرة أخرى، ومن المنتظر أن تكون المنافسة شديدة في الانتخابات الرئاسية الوشيكة. والواقع أنه على الرغم من النجاحات التي أحرزتها الحكومة فإن احتمالات التغيير قائمة، حيث أصبح الحزب الوطني المنتمي إلى كتلة يمين الوسط ينافس جبهة أمبليو كتفاً بكتف.
وفي الانتخابات التمهيدية الداخلية لجبهة أمبليو فاز خوسيه موخيكا بالترشيح لمنصب الرئاسة بتحدي فاسكيز ووضع نفسه في موقع أبعد إلى اليسار من منافسه دانيلو أستوري الذي كان يمثل استمراراً للإدارة الحالية. ويتسم موخيكا بمظهر شعوبي، استناداً إلى جاذبيته الشخصية، ومواقفه المناهضة للمؤسسة الحاكمة واستمالته للفقراء، ولقد تعزز هذا المظهر بسبب سماته الشخصية وانتسابه إلى عضوية حركة توباماروس في الستينيات، فضلاً عن تقربه من الزوجين كيرشنر في الأرجنتين واليسار البوليفي.
نظراً لكل هذا فقد يبدو الأمر وكأن البديل الديمقراطي الاجتماعي الدقيق البناء في أوروجواي قد ينحل. بيد أن نظام الحزب والتوازن الداخلي للسلطة بين دوائر جبهة أمبليو لا يؤذن بأي تحول حاد نحو اليسار المتطرف أو الشعوبية. بل وبعد أن أدرك موخيكا أن التكتيكات الشعوبية من المرجح أن تثبت قدرتها على هدم الذات في الانتخابات الرئاسية، فقد بدأ في دعم سجل إدارة فاسكيز وجعل أستوري مرشحه لمنصب نائب الرئيس. وللتأكيد على مؤهلاتهما الديمقراطية الاجتماعية فقد قام كل من المرشحين ـ موخيكا وأستوري ـ بزيارات مهمة للولايات المتحدة والبرازيل وشيلي.
فضلاً عن ذلك فإن الهياكل السياسية في أوروجواي ستضفي دوماً تأثيراً ملطفاً على أي حكومة قد يتم انتخابها. وبغض النظر عن الميول السياسية للرئيس فمن المرجح أن تستمر الإصلاحات الديمقراطية الاجتماعية التي تحققت في السنوات الأخيرة إذا تم انتخاب جبهة أمبليو، وإن كان ذلك سيكون مصحوباً بدرجات تشديد متفاوتة ومتغيرات ملموسة تفرضها الدورة الاقتصادية والموارد السياسية المتاحة للحكومة.
إذا لم تفز جبهة أمبليو بالجولة الأولى، فلن تنجح في تأمين الأغلبية المطلقة التي تمتع بها فاسكيز، الأمر الذي لابد أن يحد من قدرة الحكومة على الإبداع. فضلاً عن ذلك، ورغم أن موخيكا يتمتع بدعم الأغلبية داخل جبهة أمبليو، فإنه ليس الزعيم الأوحد للحزب بل إنه مجرد رئيس لأحد فصائله المتنافسة. وستخضع زعامته لاختبار مرير في إطار الحملة الانتخابية، وأيضاً أثناء ولايته الرئاسية في حال خروجه من الانتخابات منتصراً.
إن فترة ولاية ثانية لجبهة أمبليو من شأنها أن تفرض مشكلات جديدة، وذلك لأن توازن القوى والمنافسة السياسية سيصبحان أشد قوة، سواء بين الأحزاب أو داخل اليسار ذاته. وهذه التحديات من شأنها في النهاية أن تدفع الديمقراطيين الاجتماعيين في أوروجواي إلى موقع أقرب من تجارب البرازيل وشيلي. ومثلها كمثل نظيراتها في أوروبا فإن الحكومات الديمقراطية الاجتماعية في أمريكا اللاتينية لابد أن تزدهر في نهاية المطاف من خلال الأنظمة الديمقراطية التعددية، بل وحتى سياسات التسوية والمصالحة الأكثر مطالبة وإلحاحاً.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي