حتى عندما «نقاطع».. تنتصر التكنولوجيا!
لثورة المعلومات المتمثلة في عشرات التكنولوجيات التي أحاطت بنا من كل جانب, بدءا من القنوات الفضائية وانتهاء بالإنترنت بكل جوانبه والموبايل, آثار عميقة في الأسرة العربية وفي المجتمع، وهي آثار تأتي معها تحديات ضخمة تحتاج إلى حلول وبحث وكثير من التفكير والعمل الجاد. هذا ملخص ما كتبت في الأسبوعين الماضيين، وكان من ضمن ما كتبت أن المطالبة بمقاطعة التكنولوجيا ليس حلا لأنه أمر مستحيل، بكل بساطة.
جاءتني رسائل وتعليقات انزعاج من عدد من القراء، يرون أن المقاطعة أمر ممكن وأنها تمثل علاجا حقيقيا، مستدلين بنماذج عديدة من الغرب والعالم العربي لهذه المقاطعة وآثارها الإيجابية. الملاحظ في هذه النماذج أنها نماذج فردية لأشخاص استطاعوا تحدي التكنولوجيا ومنعها من بيوتهم، وهو تحد رائج عالميا حتى إن هناك يوما سنويا في أمريكا لمقاطعة التلفزيون، وهناك مثله يوم في بريطانيا (20 يوليو)، وهناك كثير من الناس يحاولون تطبيق عادة ''يوم بلا تلفزيون''، وذلك في الغالب لدعم عادات القراءة ولتعويد الأطفال على مقاومة إدمان التلفزيون وغيرها، وهناك آلاف الأسر العربية التي تضع قواعد صارمة ضد الاستخدام المكثف للتلفزيون والإنترنت في البيوت. الجهود الفردية لا علاقة لها بقضايا التغيير الاجتماعي، وهي عموما تستحق الثناء لأنها تحفظ للنفس الإنسانية قوتها وتميزها، ولكن المجتمع شيء آخر.
معظم أفراد المجتمع بعيدون عن هذا التطبيق المنظم للقواعد الصارمة في منازلهم، خاصة إذا كانت هذه القواعد خارجة عن السلوك الاجتماعي العام. حتى لو تبنى المجتمع قواعد معينة، فإن تكنولوجيا المعلومات من القوة بحيث تصل إليك في النهاية.
بعض القراء كتبوا رسائل تعبر عن الانزعاج من النهاية السلبية لمقالتي الأسبوع الماضي (التكنولوجيا تنتصر على الأسرة)، وآخرون انتقدوا عدم تقديم حلول في المقال، وأنا أعترف بالأمرين، لأنني أعتقد فعلا أن الوضع أكبر من أن يمكن التحكم فيه ببساطة، وأنه يمشي كشلال جارف ولكنه يتسلل بهدوء في الوقت نفسه بحيث يرتفع منسوب المياه وتغرق البيوت دون أن يشعر أحد.
هناك حلول بالطبع، وهذه الحلول هي مثار نقاش عالمي، لأن الغربيين كما ذكرت سابقا أعطوا هذه المشكلات اهتماما أكبر من اهتمامنا، بل إن أحد القراء أرسل لي (إيميلا) مطولا بأسماء عدد من الكتب المهمة في أمريكا التي ناقشت هذا الموضوع بشكل مفصل، ولكن هذه الحلول تتطلب آليات متكاملة وشاملة للتغيير الاجتماعي، وتتطلب وقوف كل جبهات المجتمع وراءها، وتتطلب إيمانا عميقا لدى نسبة من الجمهور الواعي بالقضية، وتتطلب أن تكون لدينا أبحاث متنوعة وجادة يبحث كل منها في أحد أجزاء المشكلة.
هذا ممكن بالطبع، ولكن في أي مجتمع نام حول العالم (وهذا شأن كل المجتمعات العربية)، هناك مشكلات كثيرة في البنية التحتية والنظم الأساسية للمجتمع والتعليم والصحة وغيره، إضافة إلى المشكلات الأيديولوجية التي أرهقت المجتمع العربي خلال العقود الماضية وحتى يومنا هذا، وهذا كله يمنعنا من التركيز على مشكلة معينة في حد ذاتها ورص الصفوف لمعالجتها.
ربما قبل أن نبحث عن الحل، نحتاج إلى أن نبدأ من مكان ما، نقطة إيجابية للنظر للموضوع، وأولى هذه النقاط الإيجابية خلق وعي في الناس من حولنا بالتحدي الذي نواجهه، على ألا نتطرف في الخوف، ولا نتطرف في الرفض، ولا نتطرف في الانعزالية والسلبية، ولا نتطرف في الحلول ونحرص على التوازن في تقدير السلبيات والإيجابيات. تكنولوجيا المعلومات جزء من نمو حضارتنا المعاصرة وستبقى العلامة الأبرز في القرن الحادي والعشرين، شئنا أم أبينا، ومثل هذا التطرف يعني فقط أن نتوقف بينما العالم يسير.
إيجاد الحلول أصعب أمر يمكن فعله في مواجهة مشكلة ضخمة، والتغيير هو أصعب الحلول، وهذا شأن العظماء فقط!!
* مدير الإعلام الجديد، مجموعة MBC