هل تصبح الصين نموذجا لحل الأزمة المالية العالمية؟
يعلم الجميع مصدر الأزمة المالية التي يواجهها العالم ومنبعها هي الولايات المتحدة بعد أن أشهر مصرف ''ليمان برازرز'' رابع أكبر البنوك الأمريكية إفلاسه جراء تعرضه لخسائر بلغت مليارت الدولارات, فهل قدمت الصين إسهاما يمكن أن يعد إيجابيا للاقتصاد العالمي أم أضرت به؟ إننا نعتبر الركود الذي اجتاح الاقتصادين الأمريكي والأوروبي وهما اللذان يشتريان معاً أكثر من نصف الصادرات الصينية مصدراً مقلقا للسلطات الصينية يخيفها من تراجع النمو وتأثيره في الاستقرار الداخلي, وكانت الاضطرابات الداخلية الأخيرة في الصين مبعث قلق كبير للسلطات لكن استغلتها الحكومة الصينية أيضا لكيل التهم للغرب وأمريكا اللذين رمتاها بعين الحسد لأنها أحسنت دون غيرها التعامل مع الأزمة, أما بخصوص مواجهة احتمالات الركود الاقتصادي فقد تعهدت الحكومة باتخاذ خطوات كفيلة بدعم الاقتصاد ووقف النزيف، فهل يستطيع الاقتصاد الصيني، أن ينهض من كبوته دون غيره في الربع الثالث من السنة الجارية؟ الاقتصاد الصيني وهو ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة واليابان، أخذ في فرض نفسه بقوة ربما على شكل مارد اقتصادي يلتهم العالم والدول ويغرق أسواقها بكل السبل الشرعية وغير الشرعية, وعلى الرغم من أن الصين ما زالت تواجه عجزا ماليا في الميزانية سيبلغ 950 مليار يوان (139 مليار دولار أمريكي) لعام 2009، وهو رقم قياسي في ستة عقود ويقترب من ثلاثة أضعاف الرقم القياسي السابق الذي بلغ 319.8 مليار يوان عام 2003, ويعطينا ذلك انطباعا أن الطريق ليس مفروشا لهم بالورد, ولكن بالعمل وحده تأمل الدولة الصينية بالانتصار وذلك بناء على خطة تحفيز غير مسبوقة لتعزيز النمو الاقتصادي أعلنتها وسط التباطؤ الاقتصادي العالمي وهي حزمة تحفيز بلغت أربعة تريليونات يوان ''585.5 مليار دولار أمريكي'', بناء على هذا جاء الحديث عن تعافي الاقتصاد الصيني تدريجيا قبل الاقتصادات الرئيسة الأخرى بل وانتعاشه بناء على الاستثمار الحكومي الضخم, لقد نما الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 7.9 في المائة في النصف الأول عن الفترة نفسها من العام الماضي ليبلغ 13.99 تريليون يوان (2.06 تريليون دولار), كما يشير الجانب التقني إلى أن الاقتصاد الصيني هو الأفضل أداء بين الاقتصادات العالمية الكبرى وذلك بسبب تطبيق الحكومة سياسة الإنعاش الاقتصادية الضخمة هذه التي بلغت قيمتها 416 مليار يورو أسهمت في رفع الاستهلاك المحلي، وهو الأمر الذي غطى على الخسائر التي تسببت في التراجع الكبير للصادرات الصينية منذ بداية الأزمة الاقتصادية العالمية. لقد اعتبر تعامل الحكومة الصينية مع الأزمة المالية العالمية أنه تم بجدارة فائقة بما في ذلك حزمة الحوافز وعجز الميزانية القياسي المذكورين لتكون كافية للإبقاء على نمو محدد رغم التباطؤ الاقتصادي, فأدت حزم التحفيز هذه إلى نتائج إيجابية وجعلت الاقتصاد يسير في طريق الانتعاش وإن لم يكن قد وقف على أرض صلبة بعد, ذلك أن تغير الأسعار العالمية له تأثير كبير في الأسعار المحلية, فهل يجوز الحديث عن التضخم المستورد في هذه الدولة التي تزعم أنها اشتراكية؟ لقد قفز مؤشر الأمل في الانتعاش الاقتصادي العالمي مع استجماع الاقتصاد الصيني قواه في الربع الثاني من هذا العام بفضل خطة التحفيز المالي الهائلة ونموه بنحو 7.9 في المائة ما توازى مع رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي توقعاته للاقتصاد، وأنه في ظل وجود الكثير من الظروف المواتية التي تتيح للصين الحفاظ على نمو مستدام وسريع مثل توافر العمالة ورأس المال والطلب على الاستثمار واتساع السوق ووجود شركات أكثر نشاطا وقدرة تنافسية, جعلت الصينيون يأملون في الحفاظ على النمو المطرد والسريع للاقتصاد الوطني بناء على هذه الإجراءات التحفيزية الهائلة التي شملت استثمارات حكومية ضخمة وإصلاحا ضريبيا وإعادة الهيكلة الصناعية والابتكار العلمي والرفاهية الاجتماعية وتعزيز التوظيف التي تطلبت ضخ ما يقارب 580 مليار دولار, لقد تعاملت الصين مع الأزمة المالية بشكل إيجابي بل استغلتها لتمديد نفوذها الاقتصادي ولوحظ النشاط المتزايد للمؤسسات والشركات الصينية والدليل على ذلك هو التحسن الذي شهدته الصين في الاستثمار والإنفاق والتجارة وسياسات إغراق أسواق الآخرين, في مقابل ذلك بدأ التباطؤ الاقتصادي في التراجع خصوصا بعد أن استغلت الحكومة دور قطاع الخدمات والصناعات القائمة على العمالة الكثيفة والمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم والقطاع غير العام للاقتصاد في خلق فرص للعمل, إلى جانب مشاريع أخرى هدفت إلى تحسين معيشة المواطنين في وقت تحدث العالم فيه عن الأزمة الاقتصادية والكساد, إنه لأمر مخجل أن تنجح الصين ذات المليار و300 مليون نسمة في كبح جماح البطالة والحديث عن الرفاهية - ليس لأنها دولة اشتراكية - في الوقت الذي تعجز فيه الدول العربية والإسلامية عن السيطرة على مشكلة البطالة رغم توافر الإمكانات وقلة العدد عند المقارنة بل تسعى إلى وضع خطط التقشف وتصوير النمو السكاني على أنه بعبع مخيف على الرغم من أنه أحد مرتكزات ديننا الحنيف التي حث الناس عليها, أما على صعيد الائتمان فقد نجحت البنوك الصينية في تجنب الأزمة الائتمانية التي تواجهها نظيراتها الغربية ودفعتها إلى حافة الانهيار لولا التدخل الحكومي في أوروبا والولايات المتحدة, إنها لضربة قوية للنظام الرأسمالي يجب أن تتباهى بها الصين التي ما زالت تعد نفسها ذات اقتصاد موجه يشجعها في ذلك صغر حجم النظام المالي لديها وعدم لجوء الشركات الصينية إلى سوق الأسهم أو الأوراق التجارية التي تصدرها الأسواق المالية لإنجاز معاملاتها اليومية وتعتمد بدلا من ذلك على احتياطاتها من العملة، ويذكر أن بنك الشعب الصيني ''البنك المركزي'' أعلن أخيرا أنه سيؤمن السيولة التي يحتاج إليها النظام المالي من أجل التنمية الاقتصادية, وهكذا نلاحظ أن الصين تستغل اليوم الأزمة المالية التي كبلت القطاع المصرفي العالمي الكثير لتعزيز نفوذها الاقتصادي حتى إن حجم استثمارها في شهري كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) الماضيين بلغ ضعف استثمارها في عام 2008, علاوة على الاستحواذ على مقدرات ومؤسسات اقتصادية حيوية وخاصة تلك التي تشتغل في قطاع المعادن والمقدرات الطبيعية التي تنهض عليها الحياة وذلك بثمن مخفض بسبب الأزمة المالية العالمية وإحجام البنوك عن الإقراض الأمر الذي جعل الفاعل الاقتصادي الصيني بلا منافس بسبب احتياطية المالي الهائل - الصين لم تصل إلى ما هي عليه بسبب النظريات الاشتراكية بل هي طبقت مبادئ ديننا الإسلامي بقصد أو بغيره، حيث الإيثار والتكافل الاجتماعي والتكاثر والتفاني في العمل, فهل تصبح الصين فعلا نموذجا يحتذى به لتخطي الأزمات التي هي على شاكلة الأزمة المالية الحالية؟